وصاحب المفتاح في مثل : أنبت الرّبيع البقل (١) ، فصار الحاصل من مذهبه (٢) أنّ قرينة الاستعارة بالكناية قد تكون استعارة تخييليّة مثل : أظفار المنيّة ، ونطقت الحال ، وقد تكون استعارة تحقّيقيّة على ما ذكر في قوله تعالى : (يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ)(١) (٣) أنّ البلع استعارة عن غور الماء في الأرض ، والماء استعارة بالكناية عن
________________________________________________________
(١) أي فقد ذكر أنّ الرّبيع شبّه بالفاعل الحقيقي على طريق المكنيّة ، وأنّ الإنبات قرينة لها وهو حقيقة ، فقد وجدت المكنيّة بدون التّخييليّة.
(٢) أي من مذهب السّكّاكي في قرينة المكنيّة باعتبار ما ذكره في موارد متعدّدة.
(٣) والشّاهد في أنّ البلع بمعنى إدخال الطّعام للجوف من الحلق ، استعارة عن غور الماء في الأرض ، وأصله تشبيه غور الماء في الأرض ببلع الحيوان ما في فمه إلى داخله ، ثمّ حذف المشبّه واستعير له لفظ المشبّه به وهو البلع ، وقرينة هذه الاستعارة كون الخطاب للأرض والماء استعارة بالكناية عن الغذاء ، بتشبيه الماء بالغذاء بجامع أنّهما مادة حيويّة وادّعاء أنّه فرد منه ، وإنّ الغذاء كما يتناول الخبز بصورة متعارفة يتناول الماء بصورة غير متعارفة ، فحذف المشبّه به وأقيم مقامه لازمه وهو البلع المناسب للأغذيّة دون الماء وسائر الأشربة.
ووجه الشبّه في الاستعارتين ظاهر ، أمّا في البلع فهو إدخال ما يكون به الحياة إلى مقرّ خفيّ ، أي من ظاهر إلى باطن من مكان معتاد للإدخال من أعلى إلى أسفل ، وهذه الاستعارة في غاية الحسّن لكثرة التّفصيل في وجه الشبّه فيها ، وأمّا في الماء فهو كون كلّ من الطّعام والماء ممّا تقوم به الحياة ويتقوّى به ، فالأرض يتقوّى نباتها وأشجارها بالماء والحيوان يتقوّى بالغذاء ، ويدخل كلّ منهما بالتّدريج غالبا.
والحاصل :
أنّه شبّه الماء بالغذاء بجامع أنّ كلا منهما تقوم به الحياة ويتقوّى به على طريق الاستعارة بالكناية و (ابْلَعِي) مستعار لغور استعارة تحقّيقيّة ، وهي قرينة للمكنيّة.
__________________
(١) سورة هود : ٤٤.