المسبّبات بأسبابها على طريقة حكمة الشريعة فهو حرمان خاص بوقعة معينة كما تقدم آنفا ، وأنهم سيدعون بعد ذلك إلى قتال قوم كافرين كما تدعى طوائف المسلمين ، فذكر هذا في هذا المقام إدخال للمسرة بعد الحزن ليزيل عنهم انكسار خواطرهم من جراء الحرمان. وفي هذه البشارة فرصة لهم ليستدركوا ما جنوه من التخلف عن الحديبية وكل ذلك دال على أنهم لم ينسلخوا عن الإيمان ، ألا ترى أن الله لم يعامل المنافقين المبطنين للكفر بمثل هذه المعاملة في قوله : (فَإِنْ رَجَعَكَ اللهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ) [التوبة : ٨٣].
وكرر وصف من (الْأَعْرابِ) هنا ليظهر أن هذه المقالة قصد بها الذين نزل فيهم قوله : (سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا) [الفتح : ١١] فلا يتوهم السامعون أن المعنى بالمخلفين كل من يقع منه التخلف.
وأسند (سَتُدْعَوْنَ) إلى المجهول لأنّ الغرض الأمر بامتثال الدّاعي وهو وليّ أمر المسلمين بقرينة قوله بعد في تذييله (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ) [الفتح : ١٧] ودعوة خلفاء الرّسول صلىاللهعليهوسلم من بعده ترجع إلى دعوة الله ورسوله لقوله : (ومن أطاع أمري فقد أطاعني).
وعدي فعل (سَتُدْعَوْنَ) بحرف (إِلى) لإفادة أنها مضمنة معنى المشي ، وهذا فرق دقيق بين تعدية فعل الدعوة بحرف (إِلى) وبين تعديته باللام نحو قولك : دعوت فلانا لما نابني ، قال طرفة :
وإن أدع للجلى أكن من حماتها
وقد يتعاقب الاستعمالان بضرب من المجاز والتسامح.
والقوم أولو البأس الشديد يتعين أنهم قوم من العرب لأن قوله تعالى : (تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ) يشعر بأن القتال لا يرفع عنهم إلا إذا أسلموا ، وإنما يكون هذا حكما في قتال مشركي العرب إذ لا تقبل منهم الجزية. فيجوز أن يكون المراد هوازن وثقيف. وهذا مروي عن سعيد بن جبير ، وعكرمة وقتادة ، وذلك غزوة حنين وهي بعد غزوة خيبر ، وأما فتح مكة فلم يكن فيه قتال. وعن الزهري ومقاتل : أنهم أهل الردة لأنهم من قبائل العرب المعروفة بالبأس ، وكان ذلك صدر خلافة أبي بكر الصديق. وعن رافع بن خديج أنه قال : والله لقد كنا نقرأ هذه الآية (سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ) فلا نعلم من هم حتى