عود إلى تفصيل ما جازى الله به أصحاب بيعة الرضوان المتقدم إجماله في قوله : (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ) [الفتح : ١٠] ، فإن كون بيعتهم الرسولصلىاللهعليهوسلم تعتبر بيعة لله تعالى أومأ إلى أن لهم بتلك المبايعة مكانة رفيعة من خير الدنيا والآخرة ، فلما قطع الاسترسال في ذلك بما كان تحذيرا من النكث وترغيبا في الوفاء ، بمناسبة التضاد وذكر ما هو وسط بين الحالين وهو حال المخلّفين ، وإبطال اعتذارهم وكشف طويتهم ، وإقصائهم عن الخير الذي أعده الله للمبايعين وإرجائهم إلى خير يسنح من بعد إن هم صدقوا التوبة وأخلصوا النية.
فقد أنال الله المبايعين رضوانه وهو أعظم خير في الدنيا والآخرة قال تعالى : (وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ) [التوبة : ٧٢] والشهادة لهم بإخلاص النية ، وإنزاله السكينة قلوبهم ووعدهم بثواب فتح قريب ومغانم كثيرة.
وفي قوله : (عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ) إيذان بأن من لم يبايع ممن خرج مع النبيصلىاللهعليهوسلم ليس حينئذ بمؤمن وهو تعريض بالجدّ بن قيس إذ كان يومئذ منافقا ثم حسن إسلامه.
وقد دعيت هذه البيعة بيعة الرضوان من قوله تعالى : (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ). و (إِذْ يُبايِعُونَكَ) ظرف متعلّق ب (رَضِيَ) ، وفي تعليق هذا الظرف بفعل الرضى ما يفهم أن الرضى مسبب عن مفاد ذلك الظرف الخاص بما أضيف هو إليه ، مع ما يعطيه توقيت الرضى بالظرف المذكور من تعجيل حصول الرضى بحدثان ذلك الوقت ، ومع ما في جعل الجملة المضاف إليها الظرف فعلية مضارعيّة من حصول الرضى قبل انقضاء الفعل بل في حال تجدده. فالمضارع في قوله (يُبايِعُونَكَ) مستعمل في الزمان الماضي لاستحضار حالة المبايعة الجليلة ، وكون الرضى حصل عند تجديد المبايعة ولم ينتظر به تمامها ، فقد علمت أن السورة نزلت بعد الانصراف من الحديبية.
والتعريف في (الشَّجَرَةِ) تعريف العهد وهي : الشجرة التي عهدها أهل البيعة حين كان النبي صلىاللهعليهوسلم جالسا في ظلها ، وهي شجرة من شجر السّمر ـ بفتح السين المهملة وضم الميم ـ وهو شجر الطلح. وقد تقدم أن البيعة كانت لما أرجف بقتل عثمان بن عفان بمكة فعن سلمة بن الأكوع وعبد الله بن عمر ، يزيد أحدهما على الآخر «بينما نحن قائلون يوم الحديبية وقد تفرق الناس في ظلال الشجر إذ نادى عمر بن الخطاب : أيّها الناس البيعة البيعة ، نزل روح القدس فاخرجوا على اسم الله وكان رسول الله صلىاللهعليهوسلم هو الذي دعا الناس