في الحديبية : كأنه وأصحابه قد دخلوا مكة آمنين وحلقوا وقصّروا. هكذا كانت الرؤيا مجملة ليس فيها وقوع حجّ ولا عمرة ، والحلاق والتقصير مناسب لكليهما.
وقصّ رسول الله صلىاللهعليهوسلم رؤياه على أصحابه فاستبشروا بها وعبّروها أنهم داخلون إلى مكة بعمرتهم التي خرجوا لأجلها ، فلما جرى الصلح وتأهب الناس إلى القفول أثار بعض المنافقين ذكر الرؤيا فقالوا : فأين الرؤيا فو الله ما دخلنا المسجد الحرام ولا حلقنا وقصرنا؟ فقال لهم أبو بكر رضياللهعنه : إن المنام لم يكن موقتا بوقت وأنه سيدخل وأنزل الله تعالى هذه الآية. والمعنى أن رؤيا رسول الله صلىاللهعليهوسلم حق وأن الله أوحى إليه بها وأنها وإن لم تقع في تلك القضية فستحقق بعد ذلك وكأنّ الحكمة في إراءة الله رسوله صلىاللهعليهوسلم لك الرؤيا أيامئذ وفي إخبار الرسول صلىاللهعليهوسلم أصحابه بها : أن الله أدخل بذلك على قلوبهم الثقة بقوتهم وتربية الجراءة على المشركين في ديارهم فتسلم قلوبهم من ماء الجبن فإن الأمراض النفسية إذا اعترت النفوس لا تلبث أن تترك فيها بقايا الداء زمانا كما تبقى آثار المرض في العضو المريض بعد النقاهة زمانا حتى ترجع إلى العضو قوته الأولى بعد مدة مناسبة.
وتوكيد الخبر بحرف (قد) لإبطال شبهة المنافقين الذين قالوا : فأين الرؤيا؟
ومعنى (صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا) أنه أراه رؤيا صادقة لأن رؤيا الأنبياء وحي فآلت إلى معنى الخبر فوصفت بالصدق لذلك. وهذا تطمين لهم بأن ذلك سيكون لا محالة وهو في حين نزول الآية لمّا يحصل بقرينة قوله : (إِنْ شاءَ اللهُ).
وتعدية (صَدَقَ) إلى منصوب ثان بعد مفعوله من النصب على نزع الخافض المسمّى بالحذف والإيصال ، أي حذف الجار وإيصال الفعل إلى المجرور بالعمل فيه النصب.
وأصل الكلام : صدق الله رسوله في الرؤيا كقوله تعالى : (صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ) [الأحزاب : ٢٣].
والباء في (بِالْحَقِ) للملابسة وهو ظرف مستقر وقع صفة لمصدر محذوف ، أي صدقا ملابسا الحق ، أو وقوع حالا صفة لمصدر محذوف ، أي صدقا ملابسا وقع حالا من الرؤيا.
والحق : الغرض الصحيح والحكمة ، أي كانت رؤيا صادقة وكانت مجعولة محكمة وهي ما قدمناه آنفا.
وجملة (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ) إلى آخرها يجوز أن يكون بيانا لجملة (صَدَقَ