قوله : (إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) استثناء من أحوال عامة ، أي ما يقول قولا في حالة إلا في حالة وجود رقيب عتيد لديه.
والأظهر أن هذا العموم مراد به الخصوص بقرينة قوله : (إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) لأن المراقبة هنا تتعلق بما في الأقوال من خير أو شرّ ليكون عليه الجزاء فلا يكتب الحفظة إلّا ما يتعلق به صلاح الإنسان أو فساده إذ لا حكمة في كتابة ذلك وإنما يكتب ما يترتب عليه الجزاء وكذلك قال ابن عباس وعكرمة. وقال الحسن : يكتبان كل ما صدر من العبد ، قال مجاهد وأبو الجوزاء : حتى أنينه في مرضه. وروي مثله عن مالك بن أنس. وإنما خص القول بالذكر لأن المقصود ابتداء من هذا التحذير المشركون وإنما كانوا يؤاخذون بأقوالهم الدالة على الشرك أو على تكذيب النبي صلىاللهعليهوسلم أو أذاه ولا يؤاخذون على أعمالهم إذ ليسوا مكلفين بالأعمال في حال إشراكهم.
وأما الأعمال التي هي من أثر الشرك كالتطواف بالصنم ، أو من أثر أذى النبي عليه الصلاة والسلام كإلقاء سلا الجذور عليه في صلاته ، ونحو ذلك ، فهم مؤاخذون به في ضمن أقوالهم على أن تلك الأفعال لا تخلو من مصاحبة أقوال مؤاخذ عليها بمقدار ما صاحبها.
ولأن من الأقوال السيئة ما له أثر شديد في الإضلال كالدعاء إلى عبادة الأصنام ، ونهي الناس عن اتباع الحق ، وترويج الباطل بإلقاء الشبه ، وتغرير الأغرار ، ونحو ذلك ، وقد
قال النبي صلىاللهعليهوسلم «وهل يكبّ الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم» ، على أنه من المعلوم بدلالة الاقتضاء أن المؤاخذة على الأعمال أولى من المؤاخذة على الأقوال وتلك الدلالة كافية في تذكير المؤمنين.
وجملة (إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) في موضع الحال ، وضمير (لَدَيْهِ) عائد إلى (الْإِنْسانَ) [ق : ١٦] ، والمعنى : لدى لفظه بقوله.
و (عَتِيدٌ) فعيل من عتد بمعنى هيّأ ، والتاء مبدلة من الدال الأول إذ أصله عديد ، أي معدّ كما في قوله تعالى : (وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً) [يوسف : ٣١]. وعندي أن (عَتِيدٌ) هنا صفة مشبهة من قولهم (عتد) بضم التاء إذا جسم وضخم كناية عن كونه شديدا وبهذا يحصل اختلاف بينه وبين قوله الآتي (هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ) [ق : ٢٣] ويحصل محسّن الجناس التام بين الكلمتين.