الْحَكِيمِ) [الأحقاف : ٢] تمهيدا للاستدلال على إثبات الوحدانية والبعث والجزاء ، فجعل خلق السماوات والأرض محل اتفاق ، ورتب عليه أنه ما كان ذلك الخلق إلا ملابسا للحق ، وتقتضي ملابسته للحق أنه لا يكون خلقا عبثا بل هو دال على أنه يعقبه جزاء على ما يفعله المخلوقون. واستثناء (بِالْحَقِ) من أحوال عامة ، أي ما خلقناهما إلا في حالة المصاحبة للحق.
وقوله : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ) في موضع الحال من الضمير المقدر في متعلّق الجار والمجرور من قوله : (بِالْحَقِ) ، فيكون المقصود من الحال التعجيب منهم وليس ذلك عطفا لأن الإخبار عن الذين كفروا بالإعراض مستغنى عنه إذ هو معلوم ، والتقدير : إلا خلقا كائنا بملابسة الحق في حال إعراض الذين كفروا عما أنذروا به مما دل عليه الخلق بالحق.
وصاحب الحال هو (السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) ، والمعنى : ما خلقناهما إلا في حالة ملابسة الحق لهما وتعيين أجل لهما. وإعراض الذين كفروا عما أنذروا به من آيات القرآن التي تذكرهم بما في خلق السماوات والأرض من ملابسة الحق.
وعطف (وَأَجَلٍ مُسَمًّى) على (بِالْحَقِ) ، عطف الخاص على العام للاهتمام به كعطف جبريل وميكائيل على ملائكته في قوله تعالى : (وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ) في سورة البقرة [٩٨] لأن دلالة الحدوث على قبول الفناء دلالة عقلية فهي ممّا يقتضيه الحق ، وأن تعرض السماوات والأرض للفناء دليل على وقوع البعث لأن انعدام هذا العالم يقتضي بمقتضى الحكمة أن يخلفه عالم آخر أعظم منه ، على سنة تدرج المخلوقات في الكمال ، وقد كان ظن الدهريين قدم هذا العالم وبقاءه أكبر شبهة لهم في إنكارهم البعث (وَقالُوا ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ) [الجاثية : ٢٤]. فالدهر عندهم متصرف وهو باق غير فان ، فلو جوزوا فناء هذا العالم لأمكن نزولهم إلى النظر في الأدلة التي تقتضي حياة ثانية. فجملة (وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ) مرتبطة بالاستثناء في قوله : (إِلَّا بِالْحَقِ) ، أي هم معرضون عما أنذروا به من وعيد يوم البعث.
وحذف العائد من الصلة لأنه ضمير منصوب ب (أُنْذِرُوا). والتقدير : عما أنذروه معرضون. ويجوز أن تكون ما مصدرية فلا يقدر بعدها ضمير. والتقدير عن إنذارهم معرضون فشمل كل إنذار أنذروه.