الاجتهاد القويم لأن المقام الذي أقيمت فيه هذه الحادثة تقاضاه إرشادان لا محيص من تقديم أحدهما على الآخر ، هما : إرشاد كافر إلى الإسلام عساه أن يسلم ، وإرشاد مؤمن إلى شعب الإسلام عساه أن يزداد تزكية.
وليس في حال المؤمن ما يفيت إيمانا وليس في تأخير إرشاده على نية التفرغ إليه بعد حين ما يناكد زيادة صلاحه فإن زيادة صلاحه مستمرة على ممر الأيام.
ومن القواعد المستقراة من تصاريف الشريعة والشاهدة بها العقول السليمة تقديم درء المفاسد على جلب المصالح ، ونفي الضر الأكبر قبل نفي الضر الأصغر ، فلم يسلك النبيصلىاللهعليهوسلم إلا مسلك الاجتهاد المأمور به فيما لم يوح إليه فيه. وهو داخل تحت قوله تعالى لعموم الأمة : (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) [التغابن : ١٦] وهو القائل : «إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إليّ ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع. فمن قضيت له بحق أخيه فلا يأخذه فإنما اقتطع له قطعة من نار» ، وهو القائل : «أمرت أن أحكم بالظاهر والله يتولى السرائر» وهو حديث صحيح المعنى وإن كان في إسناده تردد. فلا قبل له بعلم المغيبات إلا أن يطلعه الله على شيء منها ، فلا يعلم أن هذا المشرك مضمر الكفر والعناد وأن الله يعلم أنه لا يؤمن ولا أن لذلك المؤمن في ذلك صفاء نفس وإشراق قلب لا يتهيئان له في كل وقت.
وبذلك يستبين أن ما أوحى الله به إلى نبيئه صلىاللهعليهوسلم في هذه السورة هو وحي له بأمر كان مغيبا عنه حين أقبل على دعوة المشرك وأرجأ إرشاد المؤمن. وليس في ظاهر حالهما ما يؤذن بباطنه وما أظهر الله فيها غيب علمه إلا لإظهار مزية مؤمن راسخ الإيمان وتسجيل كفر مشرك لا يرجى منه الإيمان ، مع ما في ذلك من تذكير النبي صلىاللهعليهوسلم بما علمه الله من حسن أدبه مع المؤمنين ورفع شأنهم أمام المشركين. فمناط المعاتبة هو العبوس للمؤمن بحضرة المشرك الذي يستصغر أمثال ابن أم مكتوم ، فما وقع في خلال هذا العتاب من ذكر حال المؤمن والكافر إنما هو إدماج لأن في الحادثة فرصة من التنويه بسمو منزلة المؤمن لانطواء قلبه على أشعة تؤهله لأن يستنير بها ويفيضها على غيره جمعا بين المعاتبة والتعليم ، على سنن هدي القرآن في المناسبات.
[١١ ـ ١٦] (كَلاَّ إِنَّها تَذْكِرَةٌ (١١) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (١٢) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (١٣) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (١٤) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (١٥) كِرامٍ بَرَرَةٍ (١٦))