تأخيره إرشاد ابن أم مكتوم لما علمت من أنه يستعمل في التنبيه على أمر مغفول عنه ، والمعنى : لعله يزكّي تزكية عظيمة كانت نفسه متهيئة لها ساعتئذ إذ جاء مسترشدا حريصا ، وهذه حالة خفية.
وكذلك عذره في الحرص على إرشاد المشرك بقوله : (وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى) [عبس: ٧] إذ كان النبي صلىاللهعليهوسلم يخشى تبعة من فوات إيمان المشرك بسبب قطع المحاورة معه والإقبال على استجابة المؤمن المسترشد.
فإن قال قائل : فلما ذا لم يعلم الله رسوله صلىاللهعليهوسلم من وقت حضور ابن أم مكتوم بما تضمنه هذا التعليم الذي ذكرتم.
قلنا : لأن العلم الذي يحصل عن تبيّن غفلة ، أو إشعار بخفاء يكون أرسخ في النفس من العلم المسوق عن غير تعطش ولأن وقوع ذلك بعد حصول سببه أشهر بين المسلمين وليحصل للنبي صلىاللهعليهوسلم مزية كلا المقامين : مقام الاجتهاد ، ومقام الإفادة.
وحكمة ذلك كله أن يعلم الله رسوله صلىاللهعليهوسلم بهذا المهيع من عليّ الاجتهاد لتكون نفسه غير غافلة عن مثله وليتأسى به علماء أمته وحكامها وولاة أمورها.
ونظير هذا ما ضربه الله لموسى عليهالسلام من المثل في ملاقاة الخضر ، وما جرى من المحاورة بينهما ، وقول الخضر لموسى : (وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً) [الكهف : ٦٨] ثم قوله له : (ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً) [الكهف : ٨٢]. وقد سبق مثله في الشرائع السابقة كقوله في قصة نوح : (يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ) [هود : ٤٦] وقوله لإبراهيم : (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) [البقرة : ١٢٤].
هذا ما لاح لي في تفسير هذه الآيات تأصيلا وتفصيلا ، وهو بناء على أساس ما سبق إليه المفسرون من جعلهم مناط العتاب مجموع ما في القصة من الإعراض عن إرشاد ابن أم مكتوم ، ومن العبوس له ، والتولّي عنه ، ومن التصدّي القوي لدعوة المشرك والإقبال عليه.
والأظهر عندي أن مناط العتاب الذي تؤتيه لهجة الآية والذي روي عن النبيصلىاللهعليهوسلم ثبوته من كثرة ما يقول لابن أم مكتوم : «مرحبا بمن عاتبني ربي لأجله» إنما هو عتاب على العبوس والتولّي ، لا على ما حفّ بذلك من المبادرة بدعوة ، وتأخير إرشاد ، لأن ما سلكه النبي صلىاللهعليهوسلم في هذه الحادثة من سبيل الإرشاد لا يستدعي عتابا إذ ما سلك إلا سبيل