وقد حصل من هذا إشعار من الله لرسوله صلىاللهعليهوسلم ، بأن الاهتداء صنوف عديدة وله مراتب سامية ، وليس الاهتداء مقتصرا على حصول الإيمان مراتب وميادين لسبق همم النفوس لا يغفل عن تعهدها بالتثبيت والرعي والإثمار ، وذلك التعهد إعانة على تحصيل زيادة الإيمان.
وتلك سرائر لا يعلم حقها وفروقها إلا الله تعالى. فعلى الرسول صلىاللهعليهوسلم وهو خليفة الله في خلقه أن يتوخاها بقدر المستطاع ، فما أوحى الله إليه في شأنه اتبع ما يوحى إليه وما لم ينزل عليه وحي في شأنه فعليه أن يصرف اجتهاده كما أشار إليه قوله تعالى : (وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) [محمد : ٣٠].
فكان ذلك موقع هذه الوصية المفرغة في قالب المعاتبة للتنبيه إلى الاكتراث بتتبع تلك المراتب وغرس الإرشاد فيها على ما يرجى من طيب تربتها ليخرج منها نبات نافع للخاص وللعامة.
والحاصل أن الله تعالى أعلم رسوله صلىاللهعليهوسلم أن ذلك المشرك الذي محضه نصحه لا يرجى منه صلاح ، وأن ذلك المؤمن الذي استبقى العناية به إلى وقت آخر يزداد صلاحا تفيد المبادرة به ، لأنه في حالة تلهفه على التلقّي من رسول الله صلىاللهعليهوسلم أشد استعدادا منه في حين آخر.
فهذه الحادثة منوال ينسج عليه الاجتهاد النبوي إذا لم يرد له الوحي ليعلم أن من وراء الظواهر خبايا ، وأن القرائن قد تستر الحقائق.
وفي ما قررنا ما يعرف به أن مرجع هذه الآية وقضيتها إلى تصرف النبيصلىاللهعليهوسلم بالاجتهاد فيما لم يوح إليه فيه ، وأنه ما حاد عن رعاية أصول الاجتهاد قيد أنملة. وهي دليل لما تقرر في أصول الفقه من جواز الاجتهاد للنبي صلىاللهعليهوسلم ووقوعه ، وأنه جرى على قاعدة إعمال أرجح المصلحتين بحسب الظاهر ، لأن السرائر موكولة إلى الله تعالى ، وأن اجتهاده صلىاللهعليهوسلم لا يخطئ بحسب ما نصبه الله من الأدلة ، ولكنه قد يخالف ما في علم الله ، وأن الله لا يقر رسوله صلىاللهعليهوسلم على ما فيه مخالفة لما أراده الله في نفس الأمر.
ونظير هذه القضية قضية أسرى بدر التي حدثت بعد سنين من نزول هذه الآية والموقف فيهما متماثل.
وفي قوله تعالى : (وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى) [عبس : ٣] إيماء إلى عذر النبيصلىاللهعليهوسلم في