بمرتبة أفضل الرسل صلىاللهعليهوسلم فيما لم يرد له فيه وحي ، فبحثه عن الحكم أوسع مدى من مدى أبحاث عموم المجتهدين ، وتنقيبه على المعارض أعمق غورا من تناوشهم ، لئلا يفوت سيد المجتهدين ما فيه من صلاح ولو ضعيفا ، ما لم يكن إعماله يبطل ما في غيره من صلاح أقوى لأن اجتهاد الرسول صلىاللهعليهوسلم في مواضع اجتهاده قائم مقام الوحي فيما لم يوح إليه فيه.
فالتزكية الحق هي المحور الذي يدور عليه حال ابن أم مكتوم وحال المشرك من حيث إنها مرغوبة للأول ومزهود فيها من الثاني ، وهي مرمى اجتهاد رسول الله صلىاللهعليهوسلم لتحصيلها للثاني والأمن على قرارها للأول بإقباله على الذي يتجافى عن دعوته ، وإعراضه عن الذي يعلم من حاله أنه متزكّ بالإيمان.
وفي حاليهما حالان آخران سرّهما من أسرار الحكمة التي لقنها الله نبيئهصلىاللهعليهوسلم وهو يخفى في معتاد نظر النظار فأنبأه الله به ليزيل عنه ستار ظاهر حاليهما ، فإن ظاهر حاليهما قاض بصرف الاهتمام إلى أحدهما وهو المشرك لدعوته إلى الإيمان حين لاح من لين نفسه لسماع القرآن ما أطمع النبي صلىاللهعليهوسلم بأنه قد اقترب من الإيمان فمحّض توجيه كلامه إليه لأن هدي الناس إلى الإيمان أعظم غرض بعث النبي صلىاللهعليهوسلم لأجله ، فالاشتغال به يبدو أهمّ وأرجح من الاشتغال بمن هو مؤمن خالص ، وذلك ما فعله النبي صلىاللهعليهوسلم.
غير أن وراء ذلك الظاهر حالا آخر كامنا علمه الله تعالى العالم بالخفيات ولم يوح لرسوله صلىاللهعليهوسلم التنقيب عليه وهو حال مؤمن هو مظنة الازدياد من الخير ، وحال كافر مصمم على الكفر تؤذن سوابقه بعناده وأنه لا يفيد فيه البرهان شيئا. وإن عميق التوسم في كلا الحالين قد يكشف للنبي صلىاللهعليهوسلم بإعانة الله رجحان حال المؤمن المزداد من الرشد والهدي على حال الكافر الذي لا يغر ما أظهره من اللبن مصانعة أو حياء من المكابرة ، فإن كان في إيمان الكافر نفع عظيم عام للأمة بزيادة عددها ونفع خاص لذاته. وفي ازدياد المؤمن من وسائل الخير وتزكية النفس نفع خاص له والرسول راع لآحاد الأمة ولمجموعها ، فهو مخاطب بالحفاظ على مصالح المجموع ومصالح الآحاد بحيث لا يدحض مصالح الآحاد لأجل مصالح المجموع إلا إذا تعذر الجمع بين الصالح العام والصالح الخاص ، بيد أن الكافر صاحب هذه القضية تنبئ دخيلته بضعف الرجاء في إيمانه لو أطيل التوسم في حاله ، وبذلك تعطل الانتفاع بها عموما وخصوصا وتمخض أن لتزكية المؤمن صاحب القضية نفعا لخاصة نفسه ولا يخلو من عود تزكية بفائدة على الأمة بازدياد الكاملين من أفرادها.