ف «العالمين» يعمّ كل البشر لأنهم مدعوون للاهتداء به ومستفيدون مما جاء فيه.
فإن قلت : القرآن يشتمل على أحاديث الأنبياء والأمم وهو أيضا معجزة لمحمدصلىاللهعليهوسلم فكيف قصر على كونه ذكرا.
قلت : القصر الإضافي لا يقصد منه إلا تخصيص الصفة بالموصوف بالنسبة إلى صفة أخرى خاصة ، على أنك لك أن تجعل القصر حقيقيا مفيدا قصر القرآن على الذكر دون غير ذلك من الصفات ، فإن ما اشتمل عليه من القصص والأخبار مقصود به الموعظة والعبرة كما بينت ذلك في المقدمة السابعة.
وأما إعجازه فله مدخل عظيم في التذكير لأن إعجازه دليل على أنه ليس بكلام من صنع البشر ، وإذا علم ذلك وقع اليقين بأنه حق.
وأبدل من (لِلْعالَمِينَ) قوله : (لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ) بدل بعض من كل ، وأعيد مع البدل حرف الجر العامل مثله في المبدل منه لتأكيد العامل كقوله تعالى : (وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ) [الأنعام : ٩٩] وقوله : (قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ) ، وتقدم في سورة الأعراف [٧٥]. والخطاب في قوله : (مِنْكُمْ) للذين خوطبوا بقوله : (فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ) [التكوير : ٢٦] وإذا كان القرآن ذكرا لهم وهم من جملة العالمين كان ذكر : (لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ) من بقية العالمين أيضا بحكم قياس المساواة ، ففي الكلام كناية عن ذلك.
وفائدة هذا الإبدال التنبيه على أن الذين تذكروا بالقرآن وهم المسلمون قد شاءوا الاستقامة لأنفسهم فنصحوا أنفسهم ، وهو ثناء عليهم.
وفي مفهوم الصلة تعريض بأن الذين لم يتذكروا بالقرآن ما حال بينهم وبين التذكر به إلا أنهم لم يشاءوا أن يستقيموا ، بل رضوا لأنفسهم بالاعوجاج ، أي سوء العمل والاعتقاد ، ليعلم السامعون أن دوام أولئك على الضلال ليس لقصور القرآن عن هديهم بل لأنهم أبوا أن يهتدوا به ، إما للمكابرة فقد كانوا يقولون : (قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ) [فصلت : ٥] وإما للإعراض عن تلقيه : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) [فصلت : ٢٦].
والاستقامة مستعارة لصلاح العمل الباطني ، وهو الاعتقاد ، والظاهري وهو الأفعال والأقوال تشبيها للعمل بخط مستقيم تشبيه معقول بمحسوس. ثم إن الذين لم يشاءوا أن