جبريل أطرق فإذا ذهب قرأه كما قرأ جبريل كما وعده الله» وسورة القيامة التي منها (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ) نزلت بعد سورة الأعلى فقد تعين أن قوله : (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى) وعد من الله بعونه على حفظ جميع ما يوحى إليه.
وإنما ابتدئ بقوله : (سَنُقْرِئُكَ) تمهيدا للمقصود الذي هو : (فَلا تَنْسى) وإدماجا للإعلام بأن القرآن في تزايد مستمر ، فإذا كان قد خاف من نسيان بعض ما أوحي إليه على حين قلّته فإنه سيتتابع ويتكاثر فلا يخش نسيانه فقد تكفل له عدم نسيانه مع تزايده.
والسين علامة على استقبال مدخولها ، وهي تفيد تأكيد حصول الفعل وخاصة إذا اقترنت بفعل حاصل في وقت التكلم فإنها تقتضي أنه يستمر ويتجدد وذلك تأكيد لحصوله وإذ قد كان قوله : (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى) إقراء ، فالسين دالة على أن الإقراء يستمر ويتجدد.
والالتفات بضمير المتكلم المعظّم لأن التكلّم أنسب بالإقبال على المبشّر.
وإسناد الإقراء إلى الله مجاز عقلي لأنه جاعل الكلام المقروء وآمر بإقرائه.
فقوله : (فَلا تَنْسى) خبر مراد به الوعد والتكفل له بذلك.
والنسيان : عدم خطور المعلوم السابق في حافظة الإنسان برهة أو زمانا طويلا.
والاستثناء في قوله : (إِلَّا ما شاءَ اللهُ) مفرّع من فعل (تَنْسى) ، و (ما) موصولة هي المستثنى. والتقدير : إلا الذي شاء الله أن تنساه ، فحذف مفعول فعل المشيئة جريا على غالب استعماله في كلام العرب ، وانظر ما تقدم في قوله : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ) في سورة البقرة [٢٠].
والمقصود بهذا أن بعض القرآن ينساه النبي صلىاللهعليهوسلم إذا شاء الله أن ينساه. وذلك نوعان :
أحدهما : وهو أظهرهما أن الله إذا شاء نسخ تلاوة بعض ما أنزل على النبي صلىاللهعليهوسلم أمره بأن يترك قراءته فأمر النبي صلىاللهعليهوسلم المسلمين بأن لا يقرءوه حتى ينساه النبي صلىاللهعليهوسلم والمسلمون. وهذا مثل ما روي عن عمر أنه قال : «كان فيما أنزل الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما» قال عمر : لقد قرأناها ، وأنه كان فيما أنزل : «لا ترغبوا عن آبائكم فإنّ كفرا بكم أن ترغبوا عن آبائكم». وهذا ما أشير إليه بقوله تعالى : (أَوْ نُنْسِها) في قراءة من