وقرأ الجمهور : «لا تكرمون ، ولا تحضون ، وتأكلون ، وتحبون» بالمثناة الفوقية على الخطاب بطريقة الالتفات من الغيبة في قوله : (فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ) الآيات لقصد مواجهتهم بالتوبيخ ، وهو بالمواجهة أوقع منه بالغيبة. وقرأها أبو عمرو ويعقوب بالمثناة التحتية على الغيبة لتعريف النبي صلىاللهعليهوسلم والمسلمين بذلك فضحا لدخائلهم على نحو قوله تعالى : (يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ) [البلد : ٦ ، ٧].
وقرأ الجمهور : ولا تحضون بضم الحاء مضارع حضّ ، وقرأه عاصم وحمزة والكسائي وأبو جعفر وخلف (تَحَاضُّونَ) بفتح الحاء وألف بعدها مضارع حاضّ بعضهم بعضا ، وأصله تتحاضّون فحذفت إحدى التاءين اختصارا للتخفيف أي تتمالئون على ترك الحض على الإطعام.
و (التُّراثَ) : المال الموروث ، أي الذي يخلفه الرجل بعد موته لوارثه وأصله : وراث بواو في أوله بوزن فعال من مادة ورث بمعنى مفعول مثل الدّقاق ، والحطام ، أبدلت واوه تاء على غير قياس كما فعلوا في تجاه ، وتخمة ، وتهمة ، وتقاة وأشباهها.
والأكل : مستعار للانتفاع بالشيء انتفاعا لا يبقي منه شيئا. وأحسب أن هذه الاستعارة من مبتكرات القرآن إذ لم أقف على مثلها في كلام العرب.
وتعريف التراث عوض عن المضاف إليه ، أي تراث اليتامى وكذلك كان أهل الجاهلية يمنعون النساء والصبيان من أموال مورثيهم.
وأشعر قوله : (تَأْكُلُونَ) بأن المراد التراث الذي لا حق لهم فيه ، ومنه يظهر وجه إيثار لفظ التراث دون أن يقال : وتأكلون المال لأن التراث مال مات صاحبه وأكله يقتضي أن يستحق ذلك المال عاجز عن الذب عن ماله لصغر أو أنوثة.
واللّمّ : الجمع ، ووصف الأكل به وصف بالمصدر للمبالغة ، أي أكلا جامعا مال الوارثين إلى مال الآكل كقوله تعالى : (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ) [النساء : ٢].
والجم : الكثير ، يقال : جمّ الماء في الحوض ، إذا كثر ، وبئر جموم بفتح الجيم : كثيرة الماء ، أي حبا كثيرا ، ووصف الحبّ بالكثرة مراد به الشدة لأن الحب معنى من المعاني النفسية لا يوصف بالكثرة التي هي وفرة عدد أفراد الجنس.
فالجمّ مستعار لمعنى القوي الشديد ، أي حبّا مفرطا ، وذلك محل ذم حب المال ، لأن إفراد حبه يوقع في الحرص على اكتسابه بالوسائل غير الحق كالغصب والاختلاس