النطق.
وأعقب ما به اكتساب العلم وما به الإبانة عن المعلومات ، بما يرشد الفكر إلى النظر والبحث وذلك قوله : (وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ).
فاستكمل الكلام أصول التعلّم والتعليم فإن الإنسان خلق محبا للمعرفة محبا للتعريف فبمشاعر الإدراك يكتسب المشاهدات وهي أصول المعلومات اليقينية ، وبالنطق يفيد ما يعلمه لغيره ، وبالهدي إلى الخير والشر يميز بين معلوماته ويمحصها.
والشفتان هما الجلدتان اللتان تستران الفم وأسنانه وبهما يمتص الماء ، ومن انفتاحهما وانغلاقهما تتكيف أصوات الحروف التي بها النطق وهو المقصود هنا.
وأصل شفة شفو نقص منه الواو وعوض عنه هاء فيجمع على شفوات ، وقيل : أصله شفه بهاء هي لام الكلمة فعوض عنها هاء التأنيث فيجمع على شفهات وشفاه. والذي يظهر أن الأصل شفه بهاء أصلية ثم عوملت الهاء معاملة هاء التأنيث تخفيفا في حالة الوصل فقالوا : شفة ، وتنوسي بكثرة الاستعمال فعومل معاملة هاء التأنيث في التثنية كما في الآية وهو الذي تقضيه تثنيته على شفتين دون أن يقولوا : شفوين ، فإنهم اتفقوا على أن التثنية تردّ الاسم إلى أصله.
والهداية : الدلالة على الطريق المبلّغة إلى المكان المقصود السير إليه.
والنجد : الأرض المرتفعة ارتفاعا دون الجبل. فالمراد هنا طريقان نجدان مرتفعان ، والطريق قد يكون منجدا مصعدا ، وقد يكون غورا منخفضا.
وقد استعيرت الهداية هنا للإلهام الذي جعله الله في الإنسان يدرك به الضارّ والنافع وهو أصل التمدن الإنساني وأصل العلوم والهداية بدين الإسلام إلى ما فيه الفوز.
واستعير النجدان للخير والشر ، وجعلا نجدين لصعوبة اتباع أحدهما وهو الخير فغلّب على الطريقين ، أو لأن كل واحد صعب باعتبار ، فطريق الخير صعوبته في سلوكه ، وطريق الشر صعوبته في عواقبه ، ولذلك عبر عنه بعد هذا ب (الْعَقَبَةَ) [البلد : ١١].
ويتضمن ذلك تشبيه إعمال الفكر لنوال المطلوب بالسير في الطريق الموصل إلى المكان المرغوب كما قال تعالى : (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) [الإنسان : ٣] وتشبيه الإقبال على تلقّي دعوة الإسلام إذ شقّت على نفوسهم كذلك.