عمر الأمة الحضاري
وقد نستوحي من هذه الآية كيف تتمثل الحياة في عمر الأمّة الحضاري ، من خلال ما تمثّله المجموعة من العناصر المشتركة في الثقافة والاجتماع والسياسة والعلاقات الإنسانية والأمن والاقتصاد ، مما يدخل في عملية التوازن الإنساني الذي يتكامل فيه الأفراد ليعطي كل واحد منها شيئا من طاقته المميزة لتلتقي الطاقات في حركة تكامل وتعارف وتمازج ، ليدخل ذلك كله في جسم الأمّة في المعنى التوحيدي الذي يوحد بين أفرادها ، لأن الأمة في معنى الجماعة ، ليست وجودا مميزا عن الأفراد لتكون شخصية معينة متميزة ، بل هي الأفراد الذين ينضمّون إلى بعضهم البعض في مشروع واحد وخطة موحّدة ، وطاقات متفاعلة متداخلة تنتج طاقة واحدة للأمة.
ويبقى هذا العمر قويا شابا منفتحا حيويّا حتى تتغير الخصائص الحية ، لتموت في عملية تحلّل وانكفاء وابتعاد عن الخط المتوازن ، وهذا هو الذي أثارته الآية القرآنية بقوله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) [الأنفال : ٥٣] ، وقوله تعالى : (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ) [النحل : ١١٢] وقوله تعالى : (ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [الروم : ٤١] ، إلى غير ذلك من الآيات المتحدثة عن عملية الموت الحضاري للأمة من خلال التغير الفكري والسلوك المنحرف والفساد المتنوع والبعد عن خط التقوى ، مما يجعل الإنسان صانع التغيير في الجانب الإيجابي والسلبي ، بحيث يمثل ذلك السّنة التاريخية التي أودعها الله في الواقع الإنساني الاجتماعي من موقع إرادته واختياره لا من موقع الحتمية التاريخية الخارجة