ليفكّر ويحاور ويستنتج ، فيؤيّد هذه من موقع القناعة الفكرية ، ويرفض تلك من الموقع نفسه ، ثم هو إنسان يلاحق كل إمكانات المعرفة ليستزيد منها ، وليتحرك في إطارها. أما قاعدة الكفر ، فهي ـ على العكس من ذلك ـ تسود فيها أجواء اللامبالاة بالحقيقة ، بالتالي ، فإن من يعتمدها كقاعدة لا يشعر بالمسؤولية أمام كل الطروحات الفكرية التي تقدم إليه ، فليست المشكلة عنده أن يؤمن أو لا يؤمن ، بل كل ما لديه من اهتمامات هو أن يستمتع بالحياة ، فيسير فيها كما تشاء له شهواته ، ولهذا فإنه يعمل على تبرير حالته بكل الوسائل المتاحة لديه ، فهو ليس في مجال البحث عن القناعة الفكرية ، بل في مجال البحث عن المبرّرات. وهكذا نستطيع أن نواجه قصة الرسالات والرسل ، لنعرف ماذا كان يطرح الأنبياء الأوّلون ، وماذا كان يطرح الأنبياء المتأخرون؟ وما هي الأساليب التي انطلقوا بها إلى الناس ، وما هي الأساليب التي انطلق بها المتمردون على الأنبياء في مواجهتهم للحق؟
وفي البداية ، نلتقي بقصة نوح وقومه ، فنلاحظ أو لا أن القرآن الكريم لم يحدّثنا عن أيّ نبيّ من الأنبياء أرسل بين آدم ونوح ، ولم يتحدث إلينا عن رسالة هناك ، فلربما كانت المرحلة قصيرة بحيث لا تحتاج إلى رسالة ، أو أن تلك الرسالات لم تكن في مستوى عال من الأهمية من حيث ما طرحته من أفكار وما واجهته من تحديات ، وما عايشته من أجواء ، مما يجعل من الحديث عنها شيئا لا أهمية كبري له ، ذلك أن القرآن لا يتحدث عن الأنبياء من خلال حكاية التاريخ ، بل من خلال دراسة الظاهرة وأخذ العبرة ، في ما يملك التاريخ من قضايا مهمة وملامح بارزة ، وهذا ما ذكره الله في قوله : (وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ) [النساء : ١٦٤].
* * *