وربما كان في ظن إبليس ، أن هذا المنطق التحليلي لدوافع تمرده على السجود ، يمكن أن ينفعه أو يشفع له عند الله ، فيعفو عنه ، ويقبل منه دفاعه ... ولكن الله الذي ارتدى بالكبرياء رداء لنفسه ، ومنعه عن غيره ، لأن كل من عداه هو مخلوق له محتقر في حاجته وفقره إليه ... فمن أين يأتيهم الشعور بالكبر؟! لا سيما إذا كان التكبر على مخلوق نال الكرامة من الله ، مما يجعل من التكبّر عليه تكبرا على طاعة الله وامتثال أوامره. ولهذا أصدر الله إليه الأمر بالهبوط من الجنة ، (قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها) لأنها لا تفسح مجالها لمن يتكبّر فيها ، ويشعر بالعلو والرفعة والعصيان ... (فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ) وطرده الله من الجنة ليشعره بالسقوط والذل والصغار ، لأن جو الجنة يلتقي بالعبودية المطلقة لله في كل شيء. وهكذا خرج إبليس من الجنة ، ولكنه لم يستسلم لمصيره ، بل ظل يعيش الحقد والانتقام في نفسه ... (قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) وكان يبحث عن المنفذ الذي ينفذ منه لتحقيق غرضه. وربما عرف أنّ هناك مجالا للحصول على بعض المطالب في ما يتعلق بالبقاء مع آدم في ظروف معينة وأمد محدود ، فطلب من الله أن يمنحه الخلود في الدنيا إلى يوم القيامة ، وأن يؤخر عقابه وموته.
(قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ) وكان لله حكمة في ذلك ، فقد أراد للإنسان أن يعيش الإرادة الحرّة في عملية الاختيار من خلال الصراع الذي يخوضه في معركة الخير والشرّ. وكان لا بد للشرّ من عامل يثير نوازعه في نفس الإنسان في مقابل نوازع الخير في نفسه ، وكان الشيطان العامل الذي يحقق ذلك ، ليوسوس وليزيّن ، وليخدع ويخادع ... وهكذا التقت رغبة الشيطان بحكمة الله ، فأنظره الله (إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) ، قال تعالى : (فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ* إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) [الحجر : ٣٧ ـ ٣٨]. وهنا كان الشيطان قد أحرز لنفسه غرضها ، وحصل على وعد الله ـ والله لا يخلف وعده ـ فبدأ بالإعلان عن العوامل الخبيثة الحاقدة في نفسه.
* * *