(وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ) بدأ الله خلق الإنسان من طين ، ثم صوّره حتى تكامل خلقه إنسانا سويا يملك الصورة الجميلة والجسم المعتدل ، والأجهزة الدقيقة التي تتحرك في نظام محكم متوازن ، فتحرّك فيه العقل والإرادة ، اللّذين يستطيع من خلالهما أن يحمل مسئولية نفسه ، ومسئولية الكون من حوله. ولما كان خلقه بهذه الصورة الفريدة ، كان ذلك مظهرا لقدرة الله وعظمته ، فأراد الله أن يمنحه الكرامة ، ويحمّله المسؤولية ، ويظهر لملائكته ما في هذا المخلوق من عناصر الإبداع ومظاهر القدرة ، (ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) تحية له ، وتعظيما لله الذي خلقه. ولم يكن ذلك سجود عبادة له ، لأن الله لا يرضى لخلقه أن يعبدوا غيره ، فكيف يتعبّدهم بذلك؟! بل كان سجود عبادة لله وتحية لآدم (فَسَجَدُوا). واستجاب الملائكة للأمر الإلهي ، لأنهم عاشوا العبودية له كأفضل ما تكون ، فليس بينهم وبين الانقياد إلا أن يصدر إليهم الأمر أو النهي ، لأن ذلك هو شأن العبد مع مولاه ، فلا تساؤل ولا اعتراض.
(إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ) وكان إبليس يعيش مع الملائكة ، ولكنه لم يكن منهم ، بل كان من الجن ؛ (فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) [الكهف : ٥٠] ورفض السجود ، وتمرّد على الله .. وخاطبه الله بلهجة الإنكار ، (قالَ ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ)؟! هل هناك غموض في طبيعة الأمر ، أو هناك تصور بعدم شمول الخطاب له؟ لا شيء من هذا وذاك ، لأن الأمر واضح في شموله للمجتمع كله ، ولكن إبليس كان يعيش في واد آخر ، فقد كانت عنصريته تمنعه من أن يتنازل لعنصر آخر ، وكان هاجسه ذاته لا ربه ، فهي كل شيء بالنسبة إليه ، أما علاقته بالله ، فإنها تخضع لعلاقته بأنانية نفسه ، فإذا ابتعدت عن تأكيد ذلك منه ، ابتعد عنه ؛ وهكذا كان جوابه : (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ) ، فكيف يسجد الأعلى للأسفل ، والأفضل للمفضول ، فعنصري أقوى من عنصره وأرفع درجة ؛ (خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) فأنا مخلوق من النار وهو مخلوق من الطين ، والنار تفني الطين ، فكيف أتواضع له؟!