وذكرنا ما هو أوضح من هذا كلّه ، وهو أنّ القائل إذا قال : ضربت عبد الله ، وأكرمت خالدا وبشرا ، إنّ ردّ «بشرا» إلى حكم الجملة الماضية التي قد انقطع حكمها ووقع الخروج عنها لحن وخروج عن مقتضى اللغة ، وقوله تعالى : (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ) جملة مستقلّة بنفسها ، وقد انقطع حكمها بالتجاوز لها إلى جملة أخرى ، وهو قوله : (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ).
ولا يجوز أن تنصب الأرجل بمحذوف مقدّر ؛ لأنّه لا فرق بين أن تقدّر محذوفا هو الغسل ، وبين أن تقدّر محذوفا هو المسح ، ولأنّ الحذف لا يصار إليه إلّا عند الضرورة. وإذا استقلّ الكلام بنفسه من غير تقدير محذوف ، لم يجز حمله على محذوف.
فأمّا حمل النصب على موضع الجارّ والمجرور ، فهو جائز وشائع ، إلّا أنّه موجب للمسح دون الغسل ؛ لأنّ الرؤوس ممسوحة ، فما عطف على موضعها يجب أن يكون ممسوحا مثلها ، إلّا أنّه لمّا كان اعمال أقرب العاملين أولى وأكثر في القرآن ولغة العرب ، وجب أن يكون جرّ الاية (١) حتّى تكون معطوفة على لفظة الرؤوس أولى من نصبها وعطفها على موضع الجارّ والمجرور ؛ لأنّه أبعد قليلا ، فلهذا ترجّحت القراءة بجرّ الأرجل على القراءة بنصبها.
وممّا يبيّن أنّ حمل حكم الأرجل على حكم الرؤوس في المسح أولى ، أنّ القراءة بالجر يقتضي المسح ولا يحتمل سواه ، فالواجب حمل القراءة بالنصب على ما يطابق معنى القراءة بالجرّ ؛ لأنّ القراءتين المختلفتين تجريان مجرى آيتين في وجوب المطابقة بينهما ، وهذا الوجه يرجّح القراءة بالجرّ للأرجل على القراءة بالنصب لها.
ثمّ قال صاحب الكلام : فإن قال قائل : إنّه إذا نصب فقال : «أرجلكم» جاز أيضا أن يكون محمولا على المسح ، كما قال : «مررت بزيد وعمرا» فحملوا عمرا على موضع الجارّ والمجرور ، حيث كانا في موضع نصب ، فلم لا
__________________
(١) في الهامش : الارجل.