يدلّ على ذلك أنّ من أحسن إلى غيره ، وأنعم عليه يوصف بأنّه رحيم به ، وإن لم يعلم منه رقّة قلب عليه ، بل وصفهم بالرحمة من لا يعهدون منه رقّة القلب أقوى من وصفهم الرقيق القلب بذلك ؛ لأنّ مشقة النعمة والفضل والإحسان على من لا رقّة عنده أكثر منها على الرقيق القلب ، وقد علمنا أنّ من رقّ قلبه لو امتنع من الإفضال والإحسان لم يوصف بالرحمة ، وإذا أنعم وصف بذلك ، فوجب أن يكون معناها ما ذكرناه ؛ على أنّه لا يمتنع أن يكون معنى الرحمة في الأصل ما ذكرتم ، ثمّ انتقل بالتعارف إلى ما ذكرناه كنظائره. وقد وصف الله القرآن بأنّه هدى ورحمة من حيث كان نعمة ، ولا يتأتى في القرآن ما ظنّوه ؛ وإنّما وصفت رقّة القلب بأنّها رحمة ؛ لأنّها ممّا تجاوره الرحمة التي هي النعمة في الأكثر ، وتوجد عنده ، فحلّ محلّ وصف الشهوة بأنّها محبّة لمّا كانت توجد عندها المحبة في الأكثر ، وليست الرحمة مختصّة بالعفو ، بل تستعمل في ضروب النّعم ، وصنوف الإحسان ؛ ألا ترى أنّا نصف المنعم علي غيره ، المحسن إليه بالرحمة ، وإن لم يسقط عنه ضررا ، ولم يتجاوز له عن زلّة ؛ وإنّما سمّى العفو عن الضرر وما جرى مجراه رحمة من حيث كان نعمة ؛ لأنّ النعمة بإسقاط الضرر تجري مجرى النعمة بإيصال النفع ، فقد بان بهذه الجملة معنى الآية ، وبطلان ما ضمّنه السائل سؤاله.
فإن قيل : إذا كانت الرحمة هي النعمة ، وعندكم أنّ نعم الله شاملة للخلق أجمعين ، فأيّ معنى لاستثناء (مَنْ رَحِمَ) من جملة المختلفين إن كانت الرحمة هي النعمة؟ وكيف يصحّ اختصاصها بقوم دون قوم وهي عندكم شاملة عامّة؟
قلنا : لا شبهة في أنّ نعم الله شاملة للخلق أجمعين ؛ غير أنّ في نعمه أيضا ما يختصّ بها بعض العباد ، إمّا لاستحقاق ، أو لسبب يقتضي الاختصاص فإذا حملنا قوله تعالى : (إِلَّا مَنْ رَحِمَ) على النعمة بالثواب ، فالاختصاص ظاهر ، لأنّ النعمة به لا تكون إلّا مستحقّة ، فمن استحقّ الثواب بأعماله وصل إلى هذه النعمة ، ومن لم يستحقّه لم يصل إليها.
وإن حملنا الرحمة في الآية على النعمة بالتوفيق للإيمان واللطف الذي وقع