باختياركم من الكفر والمعاصي. وقوله سبحانه : (هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) توبيخ وبيان لقانون الجزاء : وهو أن الجزاء في الآخرة ، إنما يكون على تكسب العبد ، وإقدامه على الفعل بحرية واختيار وجرأة على مخالفة أوامر الله. وذكر هذه العلة : (بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) بعد ذكر العذاب : دليل على أن جانب الرّحمة الإلهية راجح غالبا ، وجانب العذاب مرجوح مغلوب. لكن الرحمة الإلهية منوطة بإرادة الله ، أما قانون العدل فهو أن الجزاء من جنس العمل ، ويوجب العمل ، لأن الجزاء واجب بحكم الوعد المحض ، ولله سبحانه المشيئة المطلقة ، يفعل ما يشاء ، ويحكم بما يريد.
تحقّق المشركين من وقوع العذاب الأخروي
استبطأ المشركون لجهلهم وحماقتهم وقوع العذاب في الدنيا ، فأخرسهم القرآن ، وأبان لهم أن توقيت العذاب بأمر الله وحكمته ، ثم تشكّكوا في وقوع عذاب الآخرة ، فبدؤوا يتساءلون عن مدى صحته ومصداقية الوعيد به ؛ لأنهم قوم ينكرون البعث والآخرة جملة ، ويعتقدون بأن الموت في الدنيا نهاية دائمة ، لا عودة بعدها إلى الحياة مرة أخرى. وهذا ما صوره القرآن الكريم تصويرا دقيقا وبيانا صريحا بقوله تعالى :
(وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (٥٣) وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ ما فِي الْأَرْضِ لافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٥٤) أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَلا إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٥٥) هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٥٦)) (١) (٢) (٣) (٤) [يونس : ١٠ / ٥٣ ـ ٥٦].
__________________
(١) يستخبرونك.
(٢) نعم وربي.
(٣) بفائتين من العذاب بالهرب.
(٤) أخفوا الغم والحسرة.