ولكنّنا حين نتجاوز نطاق الزمان والمكان ، نجدها نموذجا مكرورا في أجيال البشريّة جميعا.
نجد هذا النوع من المنافقين من عليّة النّاس (١) الّذين لا يجدون في أنفسهم الشجاعة ليواجهوا الحقّ بالإيمان الصادق ، أو يجدون في نفوسهم الجرأة ليواجهوا الحقّ بالإنكار الصريح ، وهم في الوقت ذاته يتّخذون لأنفسهم مكان الترفّع على جماهير الناس ، وعلى تصوّرهم للأمور!
وهؤلاء قد اضطرّتهم المقادير على الإخضاع للجوّ الساطي ، ولو ظاهريّا ، فيدّعون الإيمان ، وهم في الحقيقة ليسوا بمؤمنين ، ولكنّهم يحاولون خداع المؤمنين ، ويظنّون في أنفسهم الذّكاء والدّهاء والقدرة على خداع هؤلاء البسطاء ، ولكن القرآن يصف حقيقة فعلتهم ، فهم لا يخدعون المؤمنين ، إنّما ينخدعون هم مغبّة غبائهم في تقدير الأمور.
(يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا) يحاولون خداعهم في سفاهة من الرأي.
(وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ) ، إنّهم في غفلة بحيث لا يشعرون أنّهم فضحوا أنفسهم وسقطوا في أيديهم ، ويحسبون أنّهم الظافرون.
وفي هذا النصّ وأمثاله ـ في القرآن ـ تقرير فخيم عن حقيقة كبيرة ، هي أكبر دعامة يستند إليها المؤمنون طول حياتهم الإيمانية وطول مكافحتهم ضدّ الباطل. وهي حقيقة الصلة بين الله وبين المؤمنين حقّا. إنّه يجعل صفّهم صفّه ، وأمرهم أمره ، وشأنهم شأنه. يضمّهم سبحانه إليه ، ويأخذهم في كنفه ، ويجعل عدوّهم عدوّه ، وما يوجّه إليهم من مكر ودسائس ، فهو موجّه إليه تعالى في حقيقته.
وهذا هو التفضّل العلويّ الكريم ، التفضّل الّذي يرفع مقام المؤمنين إلى ذاك المستوى الرفيع ، والّذي يوحي بأنّ حقيقة الإيمان في هذا الوجود هي أكبر وأكرم الحقائق ، والّذي يفيض على قلب المؤمن طمأنينة لاحدّ لها ، وهو يرى ربّه الكريم يجعل قضيّته هي قضيّته ، ومعركته هي معركته ، ويأخذه في صفّه ويرفعه إلى جواره الكريم .. فماذا يكون العبيد وكيدهم الحقير!
وهو في ذات الوقت تهديد رعيب للّذين يحاولون المراوغة مع المؤمنين وإيقاع الكيد بهم. تهديد بأنّ معركتهم ليست مع المؤمنين وحدهم ، إنّما هي مع الله المقتدر الجبّار القهّار ذي القوّة المتين. وأنّهم إنّما يحاربون الله ـ علانية ـ حين يحاربون أولياءه ـ مراوغة ـ وإنّما يتصدّون لنقمة الله حين يحاولون هذه المحاولة اللئيمة.
__________________
(١) أي من طبقة الأشراف فيما حسبوا.