وما يكاد القرآن يحكي فعلتهم هذه وقولتهم ، حتّى يصبّ عليهم من التهديد ما يهدّ الرواسي : (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) ـ ذلك بأن ـ (يَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ).
وما أبأس من يستهزئ به جبّار السماء والأرض ، وما أشقاه.
قال سيّد قطب : وإنّ الخيال ليمتدّ إلى مشهد مفزع رعيب ، وإلى مصير تقشعرّ من هوله القلوب ، وهو يقرأ : (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ). فيدعهم يخبطون على غير هدى ، في طريق لا يعرفون غايته. واليد الجبّارة تتلقّفهم في النهاية ، كالفئران الضئيلة تتواثب في الفخّ ، غافلة عن المقبض المكين.
وهذا هو الاستهزاء الرعيب ، لا كالاستهزاء الهزيل الحقير.
وهنا كذلك تبدو تلك الحقيقة الّتي أشرنا من قبل إليه ، حقيقة تولّي الله ـ سبحانه ـ للمعركة الّتي يراد بها المؤمنون. وما وراء هذا التولّي من طمأنينة كاملة لأولياء الله. ومصير رعيب بشع لأعداء الله الغافلين المتروكين في عماهم يخبطون ، المخدوعون بمدّ الله لهم في طغيانهم ، وإمهالهم بعض الوقت في عدوانهم. والمصير الرهيب ينتظرهم هنالك ، وهم غافلون يعمهون.
والكلمة الأخيرة الّتي تصوّر حقيقة حالهم ، ومدى خسرانهم :
(أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) فلقد كانوا يملكون الهدى ـ المتاح لهم بفضل الإسلام ـ لو أرادوا ، كان مبذولا لهم ، وكان في متناولهم ، ولكنّهم (اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى) كأغفل ما يكون المتّجرون (فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) إلى سبيل الاسترباح الأفضل.
قوله تعالى : (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا ...)
[٢ / ٤١٩] أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عبّاس في قوله : (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا) الآية.
قال : كان رجال من اليهود إذا لقوا أصحاب النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم أو بعضهم قالوا : إنّا على دينكم. (وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ) وهم إخوانهم (قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ) أي على مثل ما أنتم عليه (١).
[٢ / ٤٢٠] وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عبّاس في قوله : (وَإِذا لَقُوا
__________________
(١) الدرّ ١ : ٧٨ ؛ الطبري ١ : ١٨٨ ـ ١٩٠ / ٢٩٦ ، ٣٠٤ ، ٣٠٧ ، ٣١٠ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ٤٦ ـ ٤٩.