(يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).
إنّه نداء عامّ إلى كافّة البشريّة جمعاء ، يدعوهم جميعا لعبادة ربّهم الّذي تفرّد بالخلق والإيجاد.
ومن ثمّ فوجب أن يتفرّد بالعبادة الخالصة. ولقد كان للعبادة هدف لعلّهم ينتهون إليه ليحققّوه ، وهو حصول التقوى في النفس والالتزام والتعهّد في العمل في كافّة أنحاء الحياة.
***
وهنا يذكّرهم بمنسيّ نعمته ـ وهي ظاهرة في مرأى منهم ومسمع ، فكيف بالخفيّ المحتاج إلى إمعان نظر ـ يذكّرهم ببركات الأرض تحتهم فراشا ، وبركات السماء فوقهم بناء : (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً ...) وهو تعبير يشي باليسير في حياة البشر على هذه الأرض ، وفي إعدادها لتكون لهم سكنا مريحا وملجأ واقيا كالفراش. والناس يتناسون هذا الفراش الممهّد لهم ، لطول ما ألفوه.
(وَالسَّماءَ بِناءً) فيها متانة البناء وتنسيق البناء. والسماء ذات علاقة وثيقة بحياة الإنسان في الأرض وبسهولة هذه الحياة. هي بحرارتها وضوئها وجاذبيّة أجرامها وتناسقها وسائر النسب بين الأرض وأكناف السماء ، كلّ ذلك تمهيد لقيام الحياة على الأرض ومساعدة عليها مساعدة بانتظام.
والّتي من بركاتها إنزال الماء من السماء وإخراج الثمرات به :
(وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ).
قد تكرّر ذكر إنزال الماء من السماء وإخراج الثمرات به ، في مواضع شتّى من القرآن ، في معرض التذكير بنعم الله الجسام ولا شكّ أنّ الماء النازل من السماء هو مادّة الحياة الرئيسيّة للأحياء في الأرض جميعا ؛ فمنه تنشأ الحياة بكلّ أشكالها ودرجاتها (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍ)(١).
وقصّة الماء في الأرض ودوره في حياة الناس ، وتوقّف الحياة عليه في كلّ صورها وأشكالها. كلّ هذا ممّا لا يقبل المماحكة ، وإنّما تكفي الإشارة إليه والتذكير به في مقام الدعوة إلى عبادة الخالق الرازق الوهّاب.
وفي ذلك النداء تبرز كليّتان من كليّات التصوّر الإسلامي :
١ ـ وحدة الخالق لكلّ الخلائق (الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ).
٢ ـ ووحدة الكون وتناسق وحداته وصداقته للحياة وللإنسان : (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً
__________________
(١) الأنبياء ٢٢ : ٣٠.