وأجمل من استوفى الكلام في هذا الجانب من ميزة القرآن ، هو أبو سليمان حمد بن محمّد الخطّابي البستي (ت : ٣٨٨ ه) قال في بيان السبب الأوفى لدقيق تعبيره ورحيق تحبيره :
إنّ الّذي يوجد لهذا الكلام من العذوبة في حسّ السامع ، والهشاشة في نفسه (١) ، وما يتحلّى به من الرونق والبهجة ، الّتي يباين بها سائر الكلام ، حتّى يكون له هذا الصنيع في القلوب ، والتأثير في النفوس ، فتصطلح من أجله الألسن على أنّه كلام لا يشبهه كلام. وتحصر الأقوال عن معارضته (٢). وتنقطع به الأطماع عنها. أمر لا بدّ له من سبب ، بوجوده يجب له هذا الحكم ، وبحصوله يستحقّ هذا الوصف.
قال : وقد استقرينا أوصافه الخارجة عنه ، وأسبابه النابتة منه ، فلم نجد شيئا منها يثبت على النظر أو يستقيم في القياس ويطّرد على المعايير. فوجب أن يكون ذلك المعنى مطلوبا من ذاته ومستقصى من جهة نفسه. فدلّ النظر وشاهد العبر على أنّ السبب له والعلّة فيه : أنّ أجناس الكلام مختلفة ، ومراتبها في نسبة التبيان متفاوتة ، ودرجاتها في البلاغة متباينة غير متساوية ، فمنها البليغ الرصين الجزل ، ومنها الفصيح القريب السهل ، ومنها الجائز المطلق الرسل. وهذه أقسام الكلام الفاضل المحمود ، دون الهجين المذموم ، الّذي لا يوجد في القرآن شيء منه البتّة.
فالقسم الأوّل أعلى طبقات الكلام وأرفعه. والقسم الثاني أوسطه وأقصده. والقسم الثالث أدناه وأقربه. فحازت بلاغات القرآن من كلّ قسم حصّة ، وأخذت من كلّ نوع شعبة. فانتظم لها بامتزاج هذه الأوصاف نمط من الكلام يجمع بين صفتي الفخامة والعذوبة.
قال : وهما (الفخامة والعذوبة) على الانفراد في نعوتهما كالمتضادّين ؛ لأنّ العذوبة نتاج السهولة ، والجزالة والمتانة (عمودا فقرة الفخامة) في الكلام إنّما تعالجان نوعا من الوعورة ، فكان اجتماع الأمرين في نظمه ـ مع نبوّ كلّ واحد منهما على الآخر ـ فضيلة خصّ بها القرآن!!
قال : وإنّما تعذّر على البشر الإتيان بمثله ، لأمور :
منها : أنّ علمهم لا يحيط بجميع أسماء اللغة وبألفاظها الّتي هي ظروف المعانى والحوامل لها ، ولا تدرك أفهامهم جميع معاني الأشياء المحمولة على تلك الألفاظ ، ولا تكمل معرفتهم لاستيفاء جميع وجوه النظوم الّتي بها يكون ائتلافها وارتباط بعضها ببعض ، فيتوصّلوا باختيار الأفضل عن
__________________
(١) هشّ هشاشة : خفّ وارتاح ونشط.
(٢) حصر حصرا : عيي في النطق والكلام.