الأحسن من وجوهها ، إلى أن يأتوا بكلام مثله!
وإنّما يقوم الكلام بهذه الأشياء الثلاثة : لفظ حامل ، ومعنى قائم به ، ورباط لهما ناظم. وإذا تأمّلت القرآن وجدت هذه الأمور منه في غاية الشرف والفضيلة ، حتّى لا ترى شيئا من الألفاظ أفصح ولا أجزل ولا أعذب من ألفاظه ، ولا ترى نظما أحسن تأليفا وأشدّ تلاؤما وتشاكلا من نظمه!
وأمّا المعاني فلا خفاء ـ على ذي عقل ـ أنّها هي التي تشهد لها العقول بالتقدّم في أبوابها ، والترقّي إلى أعلى درجات الفضل من نعوتها وصفاتها.
وقد توجد هذه الفضائل الثلاث على التفرّق في أنواع الكلام (١) ، فأمّا أن توجد مجموعة في نوع منه ، فلم توجد إلّا في كلام العليم القدير ، الّذي أحاط بكلّ شيء علما وأحصى كلّ شيء عددا.
قال : فالقرآن إنّما صار معجزا ، لأنّه جاء بأفصح الألفاظ ، في أحسن نظوم التأليف ، مضمّنا أصحّ المعانى. قال : وعمود هذه البلاغة الّتي تجمع لها هذه الصفات ، هو وضع كلّ نوع من الألفاظ الّتي تشتمل عليها فصول الكلام ، موضعه الأخصّ الأشكل به ، الّذي إذا أبدل مكانه غيره ، جاء منه إمّا تبدّل المعنى ، الّذي يكون منه فساد الكلام ، وإمّا ذهاب الرونق ، الّذي يكون معه سقوط البلاغة (٢).
وتابعه على ذلك ابن عطيّة ، قال : وجه إعجازه أنّ الله قد أحاط بكلّ شيء علما ، وأحاط بالكلام كلّه علما. فإذا ترتّبت اللفظة من القرآن ، علم بإحاطته أيّ لفظة تصلح أن تلي الأولى ، ويتبيّن المعنى دون المعنى ، ثمّ كذلك من أوّل القرآن إلى آخره.
والبشر معهم الجهل والنسيان والذهول ، ومعلوم بالضرورة أنّ أحدا من البشر لا يحيط بذلك. وبهذا جاء النظم القرآني في الغاية القصوى من الفصاحة.
قال : وكتاب الله ـ سبحانه ـ لو نزعت منه لفظة ، ثمّ أدير لسان العرب على لفظة في أن يوجد أحسن منها لم توجد (٣).
__________________
(١) يعني بها : النثر والنظم والسجع.
(٢) بيان الإعجاز ـ ضمن ثلاث رسائل في إعجاز القرآن : ٢١ ـ ٣٧ ؛ التمهيد ٥ : ٢٣ ـ ٢٦.
(٣) مقدمة تفسيره (المحرّر الوجيز ١ : ٥٢). راجع : الجزء الخامس من التمهيد.