ويتلخّص هذا الوجه في صياغة القرآن البارعة ، جمعا بين فخامة المعنى وإناقة اللفظ ، وهما كالمتنافرين ـ كما نبّه عليه البستي ـ وقد استسهله القرآن في روعة باهرة.
***
الوجه الثاني ـ من وجوه إعجاز القرآن ـ جانب أسلوبه البديع وسبكه الجديد على العرب. فيه مزايا أنواع الكلام ما يجمع بين طلاقة النثر وأناقة الشعر وجزالة السجع الرصين. فلا هو نثر كنثرهم المبعثر ، ولا هو شعر كشعرهم المتحصّر ، ولا فيه تكلّف السجع الهجين. وإنّما هو نوع صياغة للكلام لم تعرفها العرب من قبل ، ولا استطاعت أن تحيك على منوالها أبدا. وهو في نفس الوقت وقع موضع إعجابهم وبهرتهم براعتها وروعتها إلى حدّ بعيد.
قال الإمام كاشف الغطاء : تلك صورة نظمه العجيب وأسلوبه الغريب ، المخالف لأساليب كلام العرب ومناهج نظمها ونثرها ، ولم يوجد قبله ولا بعده نظير ، ولا استطاع أحد مماثلة شيء منه. بل حارت فيه عقولهم ، وتدلّهت دونه أحلامهم ، ولم يهتدوا إلى مثله في جنس كلامهم من نثر أو نظم أو سجع أو رجز أو شعر. هكذا اعترف له أفذاذ العرب وفصحاؤهم الأوّلون (١).
قال عظيم العرب وفريدها الوليد بن المغيرة : يا عجبا لما يقول ابن أبي كبشة! فو الله ما هو بشعر ولا بسحر ولا بهذي جنون ، وإنّ قوله لمن كلام الله!
وقال ـ ردّا على من زعم أنّه من الشعر ـ : فو الله ما فيكم رجل أعلم بالأشعار منّي ، ولا أعلم برجز ولا بقصيدة منّي ، ولا بأشعار الجنّ! والله ما يشبه الّذي يقول شيئا من هذا.
ثمّ قال : وو الله إنّ لقوله الّذي يقول حلاوة ، وإنّ عليه لطلاوة ، وإنّه لمثمر أعلاه ، مغدق أسفله ، وإنّه ليعلو وما يعلى. وفي رواية الإصابة : وما هذا بقول بشر.
ولمّا سمع عتبة بن ربيعة ـ وكان سيّدا في العرب ـ آيا من مفتتح سورة فصّلت ، قرأها عليه النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم وهو منصت له ، أتى معشر قريش ، فسألوه عمّا وراءه؟ قال : ورائي أنّي قد سمعت قولا ، والله ما سمعت مثله قطّ ، والله ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة.
وهكذا أنيس بن جنادة ـ وكان من أشعر العرب ـ بعثه أخوه جندب بن جناده ليستخبر من أحوال النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم فرجع وأخبره : إنّه صادق في قوله. قال : لقد سمعت قول الكهنة فما هو بقولهم.
__________________
(١) الدين والإسلام ٢ : ١٠٧.