ولقد وضعت قوله على أقراء الشعر فما يلتئم على لسان أحد بعدي أنّه شعر. والله إنّه لصادق ، وإنّ خصومه لكاذبون (١).
وقال الأستاذ محمّد عبد الله درّاز : أسلوب القرآن لا يعكس نعومة أهل المدن ولا خشونة أهل البادية. وزن المقاطع في القرآن أكثر ممّا في النثر وأقلّ ممّا في الشعر. وإنّ نثره ينفرد ببعض الخصائص والميزات ، فالكلمات فيه مختارة ، غير مبتذلة ولا مستهجنة ، ولكنّها رفيعة رائعة معبّرة ، الجمل فيها ركّبت بشكل رائع ، حتّى أنّ أقلّ عدد من الكلمات يعبّر عن أوسع المعاني وأغزرها ، إنّ تعابيره موجزة ، ولكنّها مدهشة في وضوحها ، حتّى أنّ أقلّ الناس حظّا من التعلّم يستطيع فهم القرآن دونما صعوبة ، وهناك عمق ومرونة في القرآن ممّا يصلح أن يكون أساسا لمبادئ وقوانين العلوم والآداب الإسلاميّة ومذاهب الفقه وفلسفة الإلهيّات (٢).
وبذلك نجد القرآن قد أبطل سجع الكهّان وطوابع الوثنيّة ، وأضعف فنون الفخر والاستعلاء والهجاء ، وطبع الحوار بطابع السماحة وإقامة الحجّة والبحث عن الدليل ، وأحلّ الإيجاز محلّ الإسهاب ، والحكمة مكان الإطالة ، وترك في الأسلوب العربي الإسلامي طابعه الوسيط السمح ، وأعطاه جزالة وسلاسة وعذوبة وروائا. ذلك أنّ القرآن رقّق القلوب ، وأفسح مجال الفكر والنظر للعقول ، وحرّر الإنسان من غياهب الجهل والعمى ، وأطلق سراحه في ميادين الهدى والرشاد. وهكذا عمل القرآن في تثقيف الأجيال مدى الأعصار.
نعم كان لأنواع الكلام ـ عند العرب ـ من نثر وشعر وسجع ، محاسن ومساوئ ، فجاء القرآن ليجمع بين هذه الأنواع ، في صياغة جديدة وسبك طريف. واستطاع مع ذلك ، مجانبة المساوئ كلّها في أسلوب فذّ فريد.
وكان سرّ إعجازه الخارق ، قد كمن وراء ذاك الجمع وهذا النبذ العجيبين. بعد أن لم يكن باستطاعة أحد أن يجمع بين مزايا أنواع الكلام في صياغة واحدة ، ولا أن يتجانب المساوئ كلّها على الإطلاق ، الأمر الّذي تغلّب عليه القرآن في براعة فائقة بهرت العقول وأذهلت النفوس.
نعم ، من أهمّ محاسن النثر طلاقته ، فلا يتقيّد صاحب الكلام بمراعاة وزن أو قافية ، لتضطرّه إلى اقتراب ألفاظ قد لا تمسّ صميم المعنى ذاتيّا ، وإنّما هي ضرورة شعريّة ألجأته إلى ذلك. وهذا من
__________________
(١) التمهيد ٥ : ١١٩ و ١٢٠.
(٢) المصدر : ١٢١ و ١٢٢.