معايب الشعر أحيانا. غير أنّ للشعر جذبة ونغما يوجبان رواء الكلام وجمال البيان. ممّا يخصّ النظم المنسجم ، دون النثر المبعثر المنتثر.
أمّا السجع فحدّث عن وفرة التكلّفات فيه ولا حرج. وإلّا فهو كلام جزل رصين.
جاء القرآن ووضع صياغته على النثر أوّلا ، ولكن غير المبعثر ، بل أضفى عليه بعض أقراء النظوم الشعريّة (١) ، لكن لا بشكل مستوعب ومتزمّت فيه بحيث يسلب طلاقة الكلام. فجمع بين الطلاقة والنغم في صياغة واحدة ، الأمر الصعب الّذي استسهله القرآن.
هذا ولم يتغافل ما في مزايا السجع الرصين ليقتنيها ، متجانبا عن التكلّفات الهجينة ، وفي القرآن من أنواع السجع البديع الشيء الكثير (٢).
هذا هو سرّ إعجاز القرآن ، في جانب سبكه وأسلوبه الكلامي الجديد ، جامعا بين مزايا النثر والشعر والسجع ، في صياغة فذّة فريدة ، بعيدا عن معايب أنواع الكلام بأسرها جميعا. والعظمة لله.
***
الوجه الثالث : نظامه الصوتي العجيب!
وهو جانب خطير من إعجاز القرآن البياني ، لمسته العرب من أوّل يومها ، فبهرتهم روعته ودهشتهم رنّته ، فأخضعهم للاعتراف في نهاية المطاف بأنّه كلام يفوق طوع البشر وأنّه كلام الله!
إنّه جانب «اتّساق نظمه وتناسب نغمه» وإيقاعاته الموسيقيّة الساطية على الأحاسيس ، والآخذة بمجامع القلوب. وهذا الجمال التوقيعي للقرآن يبدو جليّا لكلّ من يستمع إلى آياته تتلى عليه ، حتّى ولو كان من غير العرب ، فكيف بالعرب أنفسهم.
وأوّل شيء تحسّه الآذان عند سماع القرآن هو ذا نظامه الصوتيّ البديع ، الّذي قسّمت فيه الحركات والسكونات تقسيما متنوّعا ومتوزّعا على الألحان الموسيقيّة الرقيقة ، فينوّع ويجدّد نشاط السامع عند سماعه ، ووزّعت في تضاعيفه حروف المدّ والغنّة توزيعا بالقسط ، يساعد على ترجيع الصوت به ، وتهاوي النفس فيه آنا بعد آن ، إلى أن يصل قمّتها في الفاصلة ، فيجد عندها راحته الكبرى ، على ما فصّله أساتذة الترتيل!
قال الأستاذ درّاز : ويجد الإنسان لذّة ، بل وتعتريه نشوة إذا ما طرق سمعه جواهر حروف
__________________
(١) راجع : التمهيد ٥ : ١٢٤.
(٢) المصدر : ١٢٧ و ٢١٨.