الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ)(١) ـ : والغرض من هذا الكلام إذا أخذته كما هو بجملته ومجموعه ، تصوير عظمته والتوقيف على كنه جلاله لا غير ، من غير ذهاب بالقبضة ولا باليمين إلى جهة حقيقة أو جهة مجاز. وكذلك حكم ما يروى أنّ حبرا (٢) جاء إلى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فقال : يا أبا القاسم ، إنّ الله يمسك السماوات يوم القيامة على إصبع والأرضين والجبال على إصبع والشجر على إصبع وسائر الخلق على إصبع ، ثمّ يهزّهنّ فيقول : أنا الملك! فضحك رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم تعجّبا ممّا قال ...
قال : وإنّما ضحك أفصح العرب وتعجّب ، لأنّه صلىاللهعليهوآلهوسلم لم يفهم منه إلّا ما يفهمه علماء البيان ، من غير تصوّر إمساك ولا إصبع ولا هزّ ولا شيء من ذلك ، ولكن فهمه وقع أوّل شيء وآخره على الزبدة والخلاصة ، الّتي هي الدلالة على القدرة الباهرة ، وأنّ الأفعال العظام الّتي تتحيّر فيها الأفهام والأذهان ولا تكتنهها الأوهام ، هيّنة عليه هوانا لا يوصل السامع إلى الوقوف عليه ، إلّا إجراء العبارة في مثل هذه الطريقة من التخييل. ولا ترى بابا في علم البيان أدقّ ولا أرقّ ولا ألطف من هذا الباب ولا أنفع ولا أعون على تعاطي تأويل المشتبهات من كلام الله تعالى في القرآن وسائر الكتب السماويّة وكلام الأنبياء ، فإنّ أكثره وعليّته تخييلات قد زلّت فيها الأقدام قديما وما أتى الزالّون إلّا من قلّة عنايتهم بالبحث والتنقير حتّى يعلموا أنّ في عداد العلوم الدقيقة علما لو قدّروه حقّ قدره ، لما خفي عليهم أنّ العلوم كلّها مفتقرة إليه وعيال عليه ، إذ لا يحلّ عقدها المورّبة ولا يفكّ قيودها المكربة إلّا هو.
قال : وكم من آية من آيات التنزيل وحديث من أحاديث الرسول ، قد ضيم وسيم الخسف بالتأويلات الغثّة والوجوه الرثّة ، لأنّ من تأوّل ليس من هذا العلم في عير ولا نفير ، ولا يعرف قبيلا منه من دبير (٣).
وعليه فالتمثيل في الكلام ضرب من الخيال جاء لبيان واقع الحال ، ترسيما وتجسيدا له في
__________________
(١) الزمر ٣٩ : ٦٧.
(٢) في الكشّاف : «جبرائيل» وهو تصحيف. والصحيح ما أثبتناه وفق ما في صحيح البخاري وغيره من كتب الحديث والتفسير. راجع : ابن كثير ٤ : ٦٢.
(٣) الكشّاف ٤ : ١٤٢ ـ ١٤٣.