مظهر العيان وحكاية عن أمر واقع ، وليس مجرّد تخييل صوّرته الأوهام. وهو أسلوب من أساليب البلاغة في البيان ، دفعت إليه حاجة العقل البشري عند ما حاول دعم البرهان بشاهد العيان.
انظر إلى قوله تعالى :
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ).
(وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)(١).
إنّه سبحانه وتعالى يريد أن يبيّن للناس أنّ الصدقة الّتي تبذل رياء والّتي يتبعها المنّ والأذى لا تثمر شيئا ولا تتبقّى ، فينقل هذا المعنى المجرّد في صورة حسّيّة متخيّلة على النهج الّذي جاء في الآية :
فمثله كمثل صفوان (صخرة صمّاء ملساء) غطّته طبقة خفيفة من التراب الناعم ، قد يزعم الزاعم إمكان الخصوبة عليه ، فإذا بوابل (مطر غزير ذو قطرات ثقيلة) أصابه بشدّة وأزال كلّ ما عليه من ضعيف الرجاء في الخصوبة. فبدلا من أن يعدّه للخصب والنماء ـ كما هو شيمة الأرض تجودها السماء ـ وكما هو منظور ، فإذا هو يتركه صلدا وتذهب تلك الطبقة الخفيفة الّتي كانت تستره وتخيّل فيه الخير والخصوبة.
ثمّ يمضي في التصوير لإبراز المعنى المقابل للرياء :
... كمثل جنّة بربوة (هضبة : أرض مرتفعة ذات خصوبة وبركة) أصابها مطر غزير فآتت أكلها (ثمرها) ضعفين.
فالصدقات الّتي تنفق ابتغاء مرضاة الله هي في هذه المرّة كجنّة ، لا كحفنة من تراب ، وإذا كانت حفنة التراب هناك على وجه صفوان ، فالجنّة هنا فوق ربوة.
وهكذا الوابل كان مشتركا بين الحالتين ، ولكنّه في الحالة الأولى يمحو ويمحق ، وفي الحالة الثانية يربي ويخصب.
__________________
(١) البقرة ٢ : ٢٦٤ ـ ٢٦٥.