وحتّى لو أنّ الوابل لم يصبها فإنّ فيها من الخصب والاستعداد للإنبات ما يجعل القليل من المطر يهزّها ويحييها : (فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌ) (مطر ناعم خفيف).
وبعد فإنّ الآية ترسم مشهدا كاملا مؤلّفا من منظرين متقابلين شكلا ووضعا وثمرة. وفي كلّ منظر جزئيّات يتّسق بعضها مع بعض من ناحية فنّ الرسم وفنّ العرض ، ويتّسق كذلك مع ما يمثّله من المشاعر والمعاني الّتي رسم المنظر كلّه لتمثيلها وتشخيصها وإحيائها.
نحن في المنظر الأوّل أمام قلب صلد (كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ). فهو لا يستشعر نداوة الإيمان وبشاشته. ولكن يغطّي هذه الصلادة بغشاء من الرياء.
هذا القلب الصلد المغشيّ بالرياء يمثّله (صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ) صخر لا خصب فيه ولا ليونة ، يغطّيه تراب خفيف يحجب صلادته عن الأعين ، كالرياء يحجب صلادة القلب العاري عن الإيمان.
(فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً). فقد ذهب المطر الغزير بالتراب اليسير. فانكشف الصخر بجدبه وقساوته ، ومن غير أن يثمر شيئا.
أمّا المنظر الثاني ، فقلب عامر بالإيمان ، نديّ ببشاشته ، ينفق ماله ابتغاء مرضاة الله. ينفقه عن ثقة ثابتة في الخير ، نابعة من الإيمان ، عميقة الجذور في الضمير. وهكذا قلب تمثّله جنّة خصبة عميقة التربة ذات البركة.
فإذ كان الوابل هناك في المنظر الأوّل قد ذهب بغشاء التراب ، فإنّه هنا جاء ليخصب وينمي ويثمر وينتشل ببركات الأرض.
(أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ) أحياها كما يحيي الصدقة ـ في سبيل رضا الله ـ قلب المؤمن فيزكو ويزداد صلة بالله ، كما يزكو ماله ويضاعف له الحسنات.
وحقّا إنّه المشهد الكامل ، المتقابل المناظر ، المنسّق الجزئيّات ، المعروض بطريقة معجزة التناسق والأداء ، الممثّل بمناظره الشاخصة لكلّ خالجة في القلب وكلّ خاطرة في النفس ، المصوّر للمشاعر والوجدانات بما يقابلها من الحالات والمحسوسات ، الموحي للقلب باختبار الطريق في يسر عجيب!
ولمّا كان المنظر مجالا للبصر والبصيرة من جانب ، ومردّ الأمر كلّه إلى كونه بعين الله وعلمه