(وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ)(١). ونبذهم ذلك وراء ظهورهم هو نقضهم العهد الّذي عهد إليهم في التوراة ، الّذي وصفناه ، وتركهم العمل به.
قال : وإنّما قلت : إنّه عنى بهذه الآيات من قلت. لأنّ الآيات من ابتداء الآيات الخمس والستّ من سورة البقرة فيهم نزلت إلى تمام قصصهم. وفي الآية الّتي بعد الخبر عن خلق آدم وأبنائه في قوله : (يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ)(٢). وخطابه إيّاهم بالوفاء في ذلك خاصّة دون سائر البشر ، ما يدلّ على أنّ قوله : (الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ) مقصود به كفّارهم ومنافقوهم ومن كان من أشياعهم من مشركي عبدة الأوثان على ضلالهم. غير أنّ الخطاب وإن كان لمن وصفت من الفريقين ، فداخل في أحكامهم وفي ما أوجب الله لهم من الوعيد والذمّ والتوبيخ ، كلّ من كان على سبيلهم ومنهاجهم من جميع الخلق وأصناف الأمم المخاطبين بالأمر والنهي.
فمعنى الآية إذن : وما يضلّ به إلّا التاركين طاعة الله ، الخارجين عن اتّباع أمره ونهيه ، الناكثين عهود الله الّتي عهدها إليهم في الكتب الّتي أنزلها إلى رسله وعلى ألسن أنبيائه ، باتّباع أمر رسوله محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم وما جاء به ، وطاعة الله في ما افترض عليهم في التوراة من تبيين أمره للناس وعدم كتمانه. ونكثهم في ذلك ونقضهم إيّاه هو مخالفتهم لله في عهده إليهم ، بعد إعطاء ربّهم الميثاق بالوفاء ، كما وصفهم به بقوله : (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَ)(٣). (٤).
***
وذكر الفخر الرازي وجوها في المراد بهذا الميثاق :
أحدها : أنّ المراد حججه القائمة على عباده الدالّة لهم على صحّة توحيده وصدق رسله ، فكان ذلك ميثاقا وعهدا على التمسّك بالتوحيد ، إذ كان يلزم بهذه الحجج ما ذكر من التمسّك بالتوحيد
__________________
(١) آل عمران ٣ : ١٨٧.
(٢) البقرة ٢ : ٤٠.
(٣) الأعراف ٧ : ١٦٩.
(٤) الطبري ١ : ٢٦٤ ـ ٢٦٥.