إذن فقد وهب لهذا الكائن الجديد من الطاقات الكامنة والاستعدادات المذخورة كفاء ما في هذه الأرض من قوى وطاقات وكنوز وخامات ، ووهب من القوى الخفيّة ما يحقّق المشيئة الإلهيّة. (هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها)(١).
***
أمّا الحكمة في إعلام الملائكة بذلك فترجع إلى أدب سلطاني رفيع ، يجعل من أعضاد النظام مواضع سرّه في مهامّ الأمور تعزيزا بجانبهم ، ليجعلهم على إشراف من الأمر ، دون أن يباغتوا فيحسّوا باحتقار.
وبمثل هذا الأدب الرفيع جاء في كتاب الإمام أمير المؤمنين عليهالسلام إلى أمراء جيشه :
[٢ / ٩٤٣] «فإنّ حقّا على الوالي أن لا يغيّره على رعيّته فضل ناله ، ولا طول خصّ به ـ إلى أن يقول ـ : ألا وإنّ لكم عندي أن لا أحتجز دونكم سرّا ... ولا أطوي دونكم أمرا» (٢).
وإذ لم يكن ذاك الإعلام سوى إكرام وتعزيز بجانبهم لا لغرض المشاورة معهم ، فلم يكن هناك مجال لقولهم : (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ).
ومن ثمّ جاءهم الردع اللاذع : (قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ).
أمّا لماذا بدت منهم تلك البادرة ، وكيف علموا أنّ الإنسان سوف يقوم بالإفساد في الأرض إلى جنب الإصلاح فيها؟!
فلعلّه كان لديهم من شواهد الحال أو من إلهام البصيرة ما كشف لهم عن شيء من فطرة هذا المخلوق ومن مقتضيات حياته على الأرض حياة اجتماعيّة تزدحم بمناوشات ومصادمات سوف تنتهي إلى مناورات ومنافرات وبالتالي إلى مخاصمة وإفساد في الأرض.
ثمّ هم ـ بفطرة الملائكة البريئة الّتي لا تتصوّر إلّا الخير المطلق وإلّا السّلام الشامل ـ يرون التسبيح بحمد الله والتقديس له ، هو وحده الغاية القصوى للوجود ، وهو العلّة الأولى للخلق. وهو متحقّق بوجودهم هم ، لا يعصون الله ما أمرهم ويعبدون الله لا يفترون.
نعم خفيت عليهم حكمة المشيئة العليا في بناء هذه الأرض وعمارتها ، وفي ترقية الحياة
__________________
(١) هود ١١ : ٦١. وراجع : في ظلال القرآن ١ : ٦٦ ـ ٦٨.
(٢) نهج البلاغة ٣ : ٧٩ ، الكتاب ٥٠.