(السادس) أنّ غاية ما يلزم من الخلق من الطينتين الميل والمحبّة لما يقتضيه كلّ منهما من خير وشرّ بالاختيار ، وذلك لا يستلزم الجبر لا سيّما بعد التصريح بخلط الطينتين الموجب لتدافع الطبيعتين والوقوف على حدّ الاعتدال بحيث يصير المؤمن قادرا على السيئة والكافر قادرا على الحسنة. ويؤيده قوله عليهالسلام في بعض أخبار هذا الباب : فقلوب المؤمنين تحنّ إلى ما خلقوا منه ، وقلوب الكافرين تحنّ إلى ما خلقوا منه. وظاهره أنّ ذلك الخلط والمزج صار سببا لمجرّد الميل لا أنّه رفع القدرة والاختيار ، وصار علّة للإجبار ، ولعلّ الحكمة والمصلحة في مزج الطينتين إظهار قدرته تعالى في إخراج الكافر من المؤمن وبالعكس ، دفعا لتوهّم استنادهم إلى الطبايع أو ظهور رحمته تعالى في فسّاق المؤمنين بغفران ذنوبهم ، أو تعيّش المؤمنين في دولة الكافرين ، إذ لو لم تكن رابطة الاختلاط ولم يكن لهم رأفة وأخلاق حسنة كانوا كلّهم بمنزلة الشياطين ، فلم يتخلص أحد من بطشهم. أو لوقوع المؤمن بين الخوف والرجاء حيث لا يعلم أنّ الغالب فيه الخير أو الشرّ ، أو رفع العجب عنه بفعل الطاعات ، أو الرجوع إليه تعالى في حفظ نفسه من المعاصي أو غير ذلك من الحكم والمصالح الّتي لم تدركها عقولنا القاصرة وأفهامنا الفاترة.
(السابع) ما اعتمده أكثر الأصحاب وعوّلوا عليه في هذا الباب ، وهو أنّ ذلك منزّل على العلم الإلهي ، فإنّه تعالى لمّا خلق الأرواح كلّها قابلة للخير والشرّ ، وقادرة على فعلهما ، وعلم أنّ بعضها يعود إلى الخير المحض وهو الإيمان ، وبعضها يعود إلى الشرّ المحض وهو الكفر باختيارها ... عاملها هذه المعاملة كالخلق من الطينة الطيّبة أو الخبيثة ، فحيث علم الله من أحد أنّه يختار الخير والإيمان البتة ، ولو لم يخلق من طينة طيّبة ، خلقه منها. ولمّا علم من آخر أنّه يختار الشرّ والكفر البتة ، خلقه من طينة خبيثة ، لطفا بالأوّل وتسهيلا عليه وإكراما له لما علم من حسن نيّته وعمله. وبالعكس في الثاني. وعلم الله ليس بعلّة لصدور الأفعال.
وهذا معنى جيّد تنطبق عليه أكثر أخبار الباب ويستنبط من أخبارهم عليهمالسلام كما أشير إليه في حديث (١) حكاية عنه تعالى : أنا المطّلع على قلوب عبادي لا أحيف ولا أظلم ، ولا ألزم أحدا إلّا ما عرفته منه ، قبل أن أخلقه. ويستفاد ذلك من أخبار أخر ذكرها يفضي إلى التطويل.
__________________
(١) أورده في المصابيح ١ : ٩.