(الثامن) إنّ الله سبحانه وتعالى لمّا خلق الأرواح قبل خلق الأبدان في عالم الذرّ ، وكلّفها بتكليف حين تجرّدها ، أجّج لها نارا وأمرها بالدخول إليها والاقتحام فيها ، فامتثل بعضها وبادر إلى الإطاعة فكانت عليه بردا وسلاما ، وأبى بعضها ولم يمتثل فندم وخسر ، ثمّ طلب الرجوع مرّة أخرى فأبى ولم يمتثل أيضا ، فقامت هناك الحجّة وثبتت المحجّة ، وتحقّق الإيمان والكفر بالإطاعة والعصيان ، قبل استقرار الأرواح في الأبدان ، ووقع معلوم الله تعالى مطابقا لعلمه ، فخلق تعالى للأرواح المطيعة مسكنا مناسبا لها وهو البدن من طينة علّيّين ، وخلق للأرواح العاصية مسكنا من طينة سجّين ، كما خلق تعالى للمؤمن جنّة وللكافر نارا وذلك ليستقرّ كلّ واحد فيما يناسبه ، ويعود كلّ جزء إلى كلّه وكلّ فرع إلى أصله ، فظهر أنّ الخلق من الطينتين تابع للإيمان والكفر ومسبّب عن العمل دون العكس ، فلا يلزم الجبر ولا ينافي الاختيار. ألا ترى أنّ الله تعالى لمّا علم أنّ بين النبيّين والمؤمنين اتصالا من وجه وانفصالا من وجه آخر ، لأنّ المؤمنين يوافقونهم في العقايد ويخالفونهم أحيانا في الأعمال ، لصدور المعصية منهم ، خلق قلوب المؤمنين من طينة النبيّين ، وخلق أبدانهم من دون ذلك ، لانحطاط درجتهم وشرفهم ، فوضع كلّا في درجته. وإنّك إذا قرّرت لعبدك المطيع بيتا شريفا ولعبدك العاصي بيتا وضيعا ، صحّ ذلك عقلا وشرعا ولا يصفك عاقل بالظلم والجور ، إذ الظلم وضع الشيء في غير موضعه ، وهو يلزم لو انعكس الأمر ، أو وقع التساوي ، فبان أنّ الخلق من طينتين علّيّين وسجّين تابع للطاعة والمعصية والإيمان والكفر دون العكس (١).
***
ولسيّدنا العلّامة الطباطبائي توجيه لطيف لهذه الأخبار ، أوجز فيه الكلام في إجمال بليغ ، قال :
قد استفاضت الأخبار بأنّ الله تعالى خلق السعداء من طينه علّيّين (من الجنّة) وخلق الأشقياء من طينة سجّين (من النار) وكلّ يؤول إلى حكم طينته من السعادة أو الشقاء.
وقد أورد عليها : أوّلا بمخالفة الكتاب. وثانيا باستلزام الجبر الباطل ،
أما البحث الأوّل فقد قال الله تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ)(٢). وقال : (وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ
__________________
(١) مصابيح الأنوار في حلّ مشكلات الأخبار ١ : ١١ ـ ١٤.
(٢) الأنعام ٦ : ٢.