(وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ. يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ)(١).
وهذا هو معنى قوله تعالى : (فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً)(٢) أي انتهجي المنهج الّذي مهّده الله وفرض ـ فرضا ذاتيّا ـ الجري عليه بلا تهاون ولا فتور.
والأشياء كلّها على ذلك خاضعة لله يسبّحون ليلهم ونهارهم على استمرار دائب. ما عدا الإنسان فقد فرض عليه التكاليف ليمتثلها عن اختيار ذاتي لا قسر ولا جبر ، اختبارا في صميم ذاته ، واستجلاء لمقام خلافته في الأرض. ومن ثمّ عبّر بكثير من الناس (٣) لا جميعهم.
قال أبو إسحاق الزجّاج (٤) ـ في قوله تعالى : (تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ)(٥) ـ : قيل : إنّ كلّ ما خلق الله يسبّح بحمده ، وإنّ صرير السقف وصرير الباب من التسبيح ، فيكون ـ على هذا ـ الخطاب للمشركين وحدهم في (وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ). وجائز أن يكون تسبيح هذه الأشياء بما الله به أعلم لا يفقه منه إلّا ما علّمنا.
قال : وقال قوم : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) أي ما من شيء إلّا وفيه دليل أنّ الله ـ جلّ وعزّ ـ خالقه ، وأنّ خالقه حكيم مبرّأ من الأسواء ، ولكنّكم أيّها الكفّار لا تفقهون أثر الصنعة في هذه المخلوقات.
قال : وليس هذا بشيء ، لأنّ الّذين خوطبوا بهذا ، كانوا مقرّين بأنّ الله خالقهم وخالق السماوات والأرض ومن فيهنّ ، فكيف يجهلون الخلقة وهم عارفون بها (٦).
قال الأزهري : وممّا يدلّك على أنّ تسبيح هذه المخلوقات تسبيح تعبّدت به ، قول الله ـ جلّ وعزّ ـ للجبال : (يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ)(٧). ومعنى «أوّبي» أي سبّحي مع داوود النهار كلّه إلى
__________________
(١) الأنبياء ٢١ : ١٩ ـ ٢٠. الاستحسار : التعب والإعياء.
(٢) النحل ١٦ : ٦٩.
(٣) الحجّ ٢٢ : ١٨.
(٤) هو إبراهيم بن السري الزجّاج النحوي (توفّي : ٣١١ ه) له كتاب معاني القرآن. وقد حضره الأزهري ببغداد وكلّ ما أخذ في التفسير فهو منه. (التهذيب ، المقدمة : ٣٩ و ١ : ٢٤).
(٥) الإسراء ١٧ : ٤٤.
(٦) تهذيب اللغة للأزهري ٤ : ١٩٧.
(٧) سبأ : ١٠.