الله واليوم الآخر (وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ)(١).
وعليه فالإيمان بالغيب ، وأنّ هناك وراء عالم الشهود عالما أرقى وأبقى كان أسّ الأسس لجميع العقائد الدينيّة ، والباعث الأوفى للاستسلام لوحي السماء.
وكما قال سيّد قطب : كان الإيمان بالغيب هو العتبة الأولى الّتي يجتازها الإنسان ، فيرتقي من مرتبة الحيوان ـ الّذي لا يدرك سوى ما تدركه حواسّه ـ إلى مرتبة الإنسان الّذي يدرك أنّ الوجود أكبر وأشمل من ذلك الحيّز الصغير المحدّد.
قال : وهي نقلة بعيدة الأثر في تصوّر الإنسان لحقيقة الوجود كلّه ، ولحقيقة وجوده الذاتي ، ولحقيقة القوى المنطلقة في كيان هذا الوجود ، وفي إحساسه بالكون وما وراء الكون من قدرة وتدبير. كما أنّها بعيدة الأثر في حياته على الأرض ؛ فليس من يعيش في الحيّز الصغير الّذي تدركه حواسّه ، كمن يعيش في الكون الفسيح الّذي تدركه بديهته وبصيرته ؛ ويتلقّى أصداءه وإيحاءاته في أطوائه وأعماقه ، ويشعر أنّ مداه أوسع في الزمان والمكان من كلّ ما يدركه وعيه في عمره القصير المحدود ، وأنّ وراء الكون ظاهره وخافيه ، حقيقة أكبر من الكون ، هي الّتي صدر عنها ، واستمدّ من وجودها وجوده. حقيقة الذات الإلهيّة الّتي لا تدركها الأبصار ولا تحيط بها العقول.
وعندئذ تصان الطاقة الفكريّة المحدودة المجال ، عن التبدّد والتمزّق والانشغال بما لم تخلق له ، وما لم توهب القدرة للإحاطة به ، وما لا يجدي شيئا أن تنفق فيه.
إنّ الطاقة الفكريّة الّتي وهبها الإنسان ، وهبها ليقوم بالخلافة في هذه الأرض ، فهي موكلّة بهذه الحياة الواقعة القريبة ، تنظر فيها وتتعمّقها وتتقصّاها ، وتعمل وتنتج ، وتنمي هذه الحياة وتجمّلها ، على أن يكون لها سند من تلك الطاقة الروحيّة الّتي تتّصل مباشرة بالوجود كلّه وخالق الوجود ، وعلى أن تدع للمجهول حصّته في الغيب الّذي لا تحيط به العقول.
فأمّا محاولة إدراك ما وراء الواقع ، بالعقل المحدود الطاقة بحدود هذه الأرض والحياة عليها ، دون سند من الروح الملهم والبصيرة المفتوحة ، وترك حصة للغيب لا ترتادها العقول.
فهذه المحاولة محاولة فاشلة أوّلا ، ومحاولة عابثة أخيرا. فاشلة ، لأنّها تستخدم أداة لم تخلق
__________________
(١) الأنعام ٦ : ٢٩.