لرصد هذا المجال. وعابثة ، لأنّها تبدّد طاقة العقل الّتي لم تخلق لمثل هذا المجال.
ومتى سلّم العقل البشري بالبديهة العقليّة الأولى (بديهة الفطرة) ، وهي : أنّ المحدود لا يدرك المطلق ، لزمه ـ احتراما لمنطقه ذاته ـ أن يسلّم بأنّ إدراكه للمطلق مستحيل ؛ وأنّ عدم إدراكه للمجهول ، لا ينفي وجوده في ضمير الغيب المكنون ؛ وأنّ عليه أن يكل الغيب إلى طاقة أخرى غير طاقة العقل ؛ وأن يتلقّى العلم في شأنه من العليم الخبير الّذي يحيط بالظاهر والباطن ، والغيب والشهود. وهذا الاحترام لمنطق العقل في هذا الشأن ، هو الّذي يتحلّى به المؤمنون ، وهو الصفة الأولى من صفات المتّقين.
لقد كان الإيمان بالغيب ، هو مفرق الطريق في ارتقاء الإنسان من عالم البهيمة. ولكن جماعة المادّيّين في هذا الزمان ، كجماعة المادّيّين في كلّ زمان ، يريدون أن يعودوا بالإنسان القهقرى إلى عالم البهيمة الّذي لا وجود فيه لغير المحسوس! ويسمّون هذا «تقدّميّة» وهو النكسة الّتي وقى الله المؤمنين إيّاها ، فجعل صفتهم المميّزة ، صفة (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) والحمد لله على نعمائه ، والنكسة للمنتكسين والمرتكسين (١).
***
[٢ / ٩٣] وهكذا قال الإمام أمير المؤمنين عليهالسلام في وصف أهل الضلال : «ولا يؤمنون بغيب ، ولا يعفّون عن عيب».
فقد رتّب عليهالسلام عدم عفّهم عن الرذائل ، على رفضهم الإيمان بالغيب ، فأصبحوا منطلقين في الشهوات غير آبهين ولا مكترثين.
قال عليهالسلام ـ تعقيبا على ذلك ـ : «يعملون في الشبهات ، ويسيرون في الشهوات. المعروف فيهم ما عرفوا ، والمنكر عندهم ما أنكروا ، مفزعهم في المعضلات إلى أنفسهم ، وتعويلهم في المهمّات على آرائهم ، كأنّ كلّ امرء منهم إمام نفسه ، قد أخذ منها فيما يرى بعرى ثقات وأسباب محكمات» (٢).
[٢ / ٩٤] وكذلك روي عن ابن مسعود وجماعة من الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ : أنّ الغيب هو ما غاب عن العباد علمه. قال الطبرسي : وهذا أولى لعمومه. (٣)
__________________
(١) في ضلال القرآن ١ : ٤٢ ـ ٤٣ مع تصرّف يسير.
(٢) نهج البلاغة ١ : ١٥٦ ، الخطبة : ٨٨.
(٣) مجمع البيان ١ : ٨٦.