يحب لنفسه ، وأن ينصح له حاضرا وغائبا ، حيا وميتا. ودلت الآية الكريمة على أن هذا من جملة حقوق المؤمنين بعضهم لبعض. ثم ختموا دعاءهم باسمين كريمين ، دالّين على كمال رحمة الله ، وشدة رأفته وإحسانه بهم ، الذي من جملته ، بل أجلّه ، توفيقهم للقيام بحقوقه وحقوق عباده. فهؤلاء الأصناف الثلاثة هم أصناف هذه الأمة ، وهم المستحقون للفيء الذي مصرفه راجع إلى مصالح الإسلام. وهؤلاء أهله الّذين هم أهله ، جعلنا الله منهم ، بمنه وكرمه.
[١١ ـ ١٢] ثمّ تعجب تعالى من حال المنافقين ، الّذين أطمعوا إخوانهم من أهل الكتاب ، في نصرتهم وموالاتهم على المؤمنين ، وأنهم يقولون لهم : (لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً) ، أي : لا نطيع في عدم نصرتكم أحدا يعذلنا أو يخوفنا. (وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) في هذا الوعد الذي غروا به إخوانهم. ولا يستكثر هذا عليهم ، فإن الكذب وصفهم ، والغرور والخداع مقارنهم ، والنفاق والجبن يصحبهم ، ولهذا كذبهم الله بقوله ، الذي وجد مخبره كما أخبر به ، ووقع طبق ما قال ، فقال : (لَئِنْ أُخْرِجُوا) ، أي : من ديارهم جلاء ونفيا (لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ) لمحبتهم للأوطان وعدم صبرهم على القتال ، وعدم وفائهم بالوعد. (وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ) ، بل يستولي عليهم الجبن ، ويملكهم الفشل ، ويخذلون إخوانهم ، أحوج ما كانوا إليهم. (وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ) على الفرض والتقدير ، (لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ) أي : سيحصل منهم الإدبار عن القتال والنصرة ، ولا يحصل لهم نصر من الله.
[١٣] والسبب الذي حملهم على ذلك ، أنكم ـ أيها المؤمنون ـ (أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللهِ) فخافوا منكم ، أعظم مما يخافون من الله ، وقدموا مخافة المخلوق ، الذي لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا ، على مخافة الخالق ، الذي بيده الضر والنفع ، والعطاء والمنع. (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) مراتب الأمور ، ولا يعرفون حقائق الأشياء ، ولا يتصورون العواقب ، وإنّما الفقه كلّ الفقه ، أن يكون خوف الخالق ورجاؤه ، ومحبته ، مقدما على غيره ، وغيرها تبعا لها.
[١٤] (لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً) ، أي : في حال الاجتماع (إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ) ، أي : لا يثبتون على قتالكم ، ولا يعزمون عليه ، إلّا إذا كانوا متحصنين في القرى ، أو من وراء الجدر والأسوار. فإنهم إذ ذاك ربما يحصل منهم امتناع ، اعتمادا على حصونهم وجدرهم ، لا شجاعة بأنفسهم ، وهذا من أعظم الذم. (بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ) ، أي : بأسهم فيما بينهم شديد ، لا آفة في أبدانهم ولا في قوتهم ، وإنّما الآفة في ضعف إيمانهم ، وعدم اجتماع كلمتهم ، ولهذا قال : (تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً) حين تراهم مجتمعين ومتظاهرين. (وَ) لكن (قُلُوبُهُمْ شَتَّى) ، أي : متباغضة متفرقة متشتتة. (ذلِكَ) الذي أوجب لهم اتصافهم بما ذكر (بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ) ، أي : لا عقل عندهم ، ولا لب ، فإنهم لو كانت لهم عقول ، لآثروا الفاضل على المفضول ، ولما رضوا لأنفسهم بأبخس الخطتين ، ولكانت كلمتهم مجتمعة ، وقلوبهم مؤتلفة ، فبذلك يتناصرون ، ويتعاضدون ، ويتعاونون على مصالحهم الدينية والدنيوية ، مثل هؤلاء المخذولين من أهل الكتاب ، الّذين انتصر الله لرسوله منهم ، وأذاقهم الخزي في الحياة