عبرة بأنه على كل شيء قدير ، وذلك آية محسوسة على البعث ، فإن هذه القصة معروفة منقولة ، نقلا متواترا عند بني إسرائيل ومن اتصل بهم ، ولهذا أتى بها تعالى ، بأسلوب الأمر الذي قد تقرر عند المخاطبين. ويحتمل أن هؤلاء الذين خرجوا من ديارهم خوفا من الأعداء ، وجبنا عن لقائهم ، ويؤيد هذا أن الله ذكر بعدها الأمر بالقتال وأخبر عن بني إسرائيل أنهم كانوا مخرجين من ديارهم وأبنائهم. وعلى الاحتمالين فإن فيها ترغيبا في الجهاد ، وترهيبا من التقاعد عنه ، وأن ذلك لا يغني عن الموت شيئا. (قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ).
[٢٤٤] جمع الله بين الأمر بالقتال في سبيله بالمال والبدن لأن الجهاد لا يقوم إلا بالأمرين ، وحث على الإخلاص فيه ، بأن يقاتل العبد ، لتكون كلمة الله هي العليا ، فإن الله (سَمِيعٌ) للأقوال ، وإن خفيت ، (عَلِيمٌ) بما تحتوي عليه القلوب من النيات الصالحة وضدها. وأيضا ، فإنه إذا علم المجاهد في سبيله ، أن الله سميع عليم ، هان عليه ذلك ، وعلم أنه بعينه ما يتحمل المتحملون من أجله ، وأنه لا بد أن يمدهم بعونه ولطفه. وتأمل هذا الحث اللطيف على النفقة ، وأن المنفق قد أقرض الله المليء الكريم ، ووعده المضاعة الكثيرة ، كما قال تعالى : (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ). ولما كان المانع الأكبر من الإنفاق خوف الإملاق ، أخبر تعالى أن الغنى والفقر بيد الله ، وأنه يقبض الرزق على من يشاء ، ويبسطه على من يشاء ، فلا يتأخر من يريد الإنفاق خوف الفقر ، ولا يظن أنه ضائع ، بل مرجع العباد كلهم إلى الله ، فيجد المنفقون والعاملون أجرهم عنده مدخرا ، أحوج ما يكونون إليه ، ويكون له من الوقع العظيم ، ما لا يمكن التعبير عنه. والمراد بالقرض الحسن : هو ما جمع أوصاف الحسن ، من النية الصالحة ، وسماحة النفس ، بالنفقة ، ووقوعها في محلها وأن لا يتبعها المنفق منا ولا أذى ؛ ولا مبطلا ولا منقصا.
[٢٤٦] يقص الله تعالى هذه القصة على الأمة ، ليعتبروا وليرغبوا في الجهاد ، ولا ينكلوا عنه ، فإن الصابرين صارت لهم العواقب الحميدة في الدنيا والآخرة ، والناكلين خسروا الأمرين. فأخبر تعالى أن أهل الرأي من بني إسرائيل وأصحاب الكلمة النافذة ؛ تراودوا في شأن الجهاد ، واتفقوا على أن يطلبوا من نبيهم أن يعين لهم ملكا ؛ لينقطع النزاع بتعيينه ، وتحصل الطاعة التامة ، ولا يبقى لقائل مقال. وأن نبيهم خشي أن طلبهم هذا مجرد كلام لا فعل معه ، فأجابوا نبيهم بالعزم الجازم ، وأنهم التزموا ذلك التزاما تاما ، وأن القتال متعين عليهم ، حيث كان وسيلة لاسترجاع ديارهم ؛ ورجوعهم إلى مقرهم ووطنهم.
[٢٤٧] وأنه عين لهم نبيهم طالوت ملكا ، يقودهم في هذا الأمر الذي لا بد له من قائد يحسن القيادة ، وأنهم استغربوا تعيينه لطالوت ، وثمّ من هو أحق منه بيتا وأكثر مالا. فأجابهم نبيهم : إن الله اختاره عليكم ؛ بما آتاه الله من قوة العلم بالسياسة ؛ وقوة الجسم ، اللذين هما آلة الشجاعة والنجدة ، وحسن التدبير ، وأن الملك ليس بكثرة المال ؛ ولا بكون صاحبه ممن كان الملك والسيادة في بيوتهم ، فالله يؤتي ملكه من يشاء.