[٢٤٨] ثم لم يكتف ذلك النبي الكريم بإقناعهم بما ذكره ؛ من كفاءة طالوت ؛ واجتماع الصفات المطلوبة فيهم حتى قال لهم : (إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ) ، وكان هذا التابوت قد استولت عليه الأعداء. فلم يكتفوا بالصفات المعنوية في طالوت ، ولا بتعيين الله له على لسان نبيهم ، حتى يؤيد ذلك هذه المعجزة ، ولهذا قال : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) ، فحينئذ سلموا وانقادوا.
[٢٤٩] فلما ترأس فيهم طالوت ، وجندهم ، ورتبهم ، وفصل بهم إلى قتال عدوهم ، وكان قد رأى منهم من ضعف العزائم والهمم ، ما يحتاج إلى تمييز الصابر من الناكل ، قال : (إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ) تمرون عليه وقت حاجة إلى الماء. (فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي) ، أي : لا يتبعني ؛ لأن ذلك برهان على قلة صبره ، ووفور جزعه ، (وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي) لصدقه وصبره ، (إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ) ، أي : فإنه مسامح فيها. فلما وصلوا إلى ذلك النهر وكانوا محتاجين إلى الماء ، شربوا كلهم منه (إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ) فإنهم صبروا ولم يشربوا. (فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا) أي : الناكلون أو الذين عبروا : (لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ). فإن كان القائلون هم الناكلين ، فهذا قول يبررون به نكولهم ، وإن كان القائلون هم الذين عبروا مع طالوت ، فإنه حصل معهم نوع استضعاف لأنفسهم ، ولكن شجعهم على الثبات والإقدام أهل الإيمان الكامل حيث قالوا : (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) بعونه وتأييده ، ونصره ، فثبتوا ، وصبروا لقتال عدوهم جالوت وجنوده.
[٢٥١] (وَقَتَلَ داوُدُ) صلىاللهعليهوسلم (جالُوتَ) وحصل بذلك الفتح والنصر على عدوهم. (وَآتاهُ اللهُ) ، أي : داود (الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ) النبوة والعلوم النافعة ، وآتاه الله الحكمة وفصل الخطاب.
ثم بين تعالى ، فائدة الجهاد فقال : (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ) باستيلاء الكفرة والفجار ، وأهل الشر والفساد. (وَلكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ) حيث لطف بالمؤمنين ، ودافع عنهم وعن دينهم ، بما شرعه وبما قدره.
[٢٥٢] فلما بين هذه القصة قال لرسوله صلىاللهعليهوسلم : (تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) (٢٥٢). ومن جملة الأدلة على رسالته ، هذه القصة ، حيث أخبر بها وحيا من الله ، مطابقا للواقع ، وفي هذه القصة عبر كثيرة للأمة : منها : فضيلة الجهاد في سبيله وفوائده ، وثمراته ، وأنه السبب الوحيد في حفظ الدين ، وحفظ الأوطان ، وحفظ الأبدان والأموال ، وأن المجاهدين ، ولو شقت عليهم الأمور ، فإن عواقبهم حميدة كما أن الناكلين ، ولو استراحوا قليلا ، فإنهم سيتعبون طويلا. ومنها : الانتداب لرياسة من فيه كفاءة ، وأن الكفاءة ترجع إلى أمرين : إلى العلم الذي هو علم السياسة والتدبير ، وإلى القوة التي ينفذ بها الحق ، وأن من اجتمع فيه الأمران فهو أحق من غيره. ومنها : الاستدلال بهذه القصة على ما قاله العلماء ، أنه ينبغي لأمير الجيوش ، أن يتفقدها عند