التراب ، وتركه صلدا. وهذا مثل مطابق لقلب المرائي ، الذي ليس فيه إيمان ، بل هو قاس لا يلين ولا يخشع. فهذا ، أعماله ونفقاته لا أصل لها ، تؤسس عليه ، ولا غاية لها ، تنتهي إليها ، بل ما عمله ، فهو باطل ، لعدم شرطه. والذي قبله بطل بعد وجود الشرط ، لوجود المانع ، والأول مقبول مضاعف ، لوجود شرطه الذي هو الإيمان والإخلاص والثبات ، وانتفاء الموانع المفسدة. وهذه الأمثال الثلاثة ، تنطبق على جميع العاملين ، فليزن العبد نفسه وغيره بهذه الموازين العادلة ، والأمثال المطابقة. (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ).
[٢٦٧ ـ ٢٦٨] يحث الباري عباده على الإنفاق مما كسبوا في التجارات ، ومما أخرج لهم من الأرض ، من الحبوب والثمار ، وهذا يشمل زكاة النقدين ، والعروض كلها ، المعدّة للبيع والشراء ، والخارج من الأرض ، من الحبوب والثمار ، ويدخل في عمومها الفرض والنفل. وأمر تعالى أن يقصدوا الطيب منها ، ولا يقصدوا الخبيث ، وهو الرديء الدون ، يجعلونه لله ، ولو بذله لهم من لهم حق عليه ، لم يرتضوه ولم يقبلوه إلا على وجه المغاضاة والإغماض. فالواجب إخراج الوسط من هذه الأشياء ، والكمال إخراج العالي ، والممنوع إخراج الرديء ، فإن هذا لا يجزىء عن الواجب ، ولا يحصل فيه الثواب التام في المندوب. (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) ، فهو غني عن جميع المخلوقين ، وهو الغني عن نفقات المنفقين ، وعن طاعات الطائعين ، وإنما أمرهم بها ، وحثهم عليها ، لنفعهم ومحض فضله وكرمه عليهم. ومع كمال غناه ، وسعة عطاياه ، فهو الحميد فيما يشرعه لعباده من الأحكام الموصلة لهم إلى دار السلام. وحميد في أفعاله ، التي لا تخرج عن الفضل والعدل والحكمة ، وحميد الأوصاف ، لأن أوصافه كلها محاسن وكمالات ، لا يبلغ العباد كنهها ، ولا يدركون وصفها. فلما حثهم على الإنفاق النافع ، ونهاهم عن الإمساك الضار ، بين لهم أنهم بين داعيين : داعي الرحمن ، يدعوهم إلى الخير ، ويعدهم عليه الخير ، والفضل والثواب العاجل والآجل ، وإخلاف ما أنفقوا. وداعي الشيطان ، الذي يحثهم على الإمساك ويخوفهم ، إن أنفقوا أن يفتقروا ، فمن كان مجيبا لداعي الرحمن ، وأنفق مما رزقه الله ، فليبشر بمغفرة الذنوب ، وحصول كل مطلوب ، ومن كان مجيبا لداعي الشيطان ، فإنه إنما يدعو حزبه ، ليكونوا من أصحاب السعير ، فليختر العبد أي الأمرين أليق به. وختم الآية بأنه (واسِعٌ عَلِيمٌ) ، أي : واسع الصفات ، كثير الهبات ، عليم بمن يستحق المضاعفة من العاملين ، وعليم بمن هو أهل ، فيوفقه لفعل الخيرات ، وترك المنكرات.
[٢٦٩] لما ذكر أحوال المنفقين للأموال ، وأن الله أعطاهم ، ومنّ عليهم بالأموال التي يدركون بها النفقات في الطرق الخيرية ، وينالون بها المقامات السنية ، ذكر ما هو أفضل من ذلك ، وهو أنه يعطي الحكمة من يشاء من عباده ، ومن أراد بهم خيرا من خلقه. والحكمة هي العلوم النافعة ، والمعارف الصائبة ، والعقول المسددة ، والألباب الرزينة ، وإصابة الصواب في الأقوال والأفعال. وهذا أفضل العطايا ، وأجلّ الهبات ، ولهذا قال : (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً) ؛ لأنه خرج من ظلمة الجهالات إلى نور الهدى ، ومن حمق الانحراف في الأقوال والأفعال ، إلى