شكرها ، والقيام بها. فقام بها عليهالسلام ، أتم القيام ، وصبر كما صبر إخوانه ، من أولي العزم.
[١١١] أي : واذكر نعمتي عليك ، إذ يسرت لك أتباعا وأعوانا. فأوحيت إلى الحواريين أي : ألهمتهم ، وأوزعت قلوبهم الإيمان بي وبرسولي ، وأوحيت إليهم على لسانك ، أي : أمرتهم بالوحي الذي جاءك من عند الله. فأجابوا لذلك وانقادوا ، وقالوا : آمنا ، واشهد بأننا مسلمون. فجمعوا بين الإسلام الظاهر ، والانقياد بالأعمال الصالحة والإيمان الباطن ، المخرج لصاحبه من النفاق ، ومن ضعف الإيمان. والحواريون هم : الأنصار ، كما قال عيسى ابن مريم للحواريين : (مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ).
[١١٢] (إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ) أي : مائدة فيها طعام. وهذا ليس منهم عن شك في قدرة الله ، واستطاعته على ذلك. وإنّما ذلك ، من باب العرض والأدب منهم. ولما كان سؤال آيات الاقتراح ، منافيا للانقياد للحق ، وكان هذا الكلام الصادر من الحواريين ، ربما أوهم ذلك ، وعظهم عيسى عليهالسلام فقال : (اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) فإن المؤمن ، يحمله ما معه من الإيمان على ملازمة التقوى ، وأن ينقاد لأمر الله ، ولا يطلب من آيات الاقتراح التي لا يدري ما يكون بعدها.
[١١٣] فأخبر الحواريون ، أنهم ليس مقصودهم هذا المعنى ، وإنّما لهم مقاصد صالحة. لأجل الحاجة إلى ذلك (قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها) وهذا دليل على أنهم محتاجون لها. (وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا) بالإيمان ، حين نرى الآيات العيانية ، حتى يكون الإيمان عين اليقين. كما سأل الخليل ، عليه الصلاة والسّلام ربه ، أن يريه كيف يحيي الموتى (قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي). فالعبد محتاج إلى زيادة العلم ، واليقين ، والإيمان كل وقت ، ولهذا قال : (وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا) أي : نعلم صدق ما جئت به ، أنه حق وصدق. (وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ) فتكون مصلحة لمن بعدنا. نشهدها لك ، فتقوم الحجة ، ويحصل زيادة البرهان بذلك.
[١١٤] فلما سمع عيسى عليه الصلاة والسّلام ذلك ، وعلم مقصودهم ، أجابهم إلى طلبهم في ذلك. فقال : (اللهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وَآيَةً مِنْكَ) أي : يكون وقت نزولها ، عيدا وموسما ، يتذكر به هذه الآية العظمة ، فتحفظ ولا تنسى على مرور الأوقات ، وتكرر السنين. كما جعل الله تعالى أعياد المسلمين ومناسكهم ، مذكرة لآياته ، ومنبها على سنن المرسلين وطرقهم القويمة ، وفضله وإحسانه عليهم. (وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) أي : اجعلها لنا رزقا. فسأل عيسى عليهالسلام نزولها أن تكون لهاتين المصلحتين ، مصلحة الدين ، بأن تكون آية باقية ، ومصلحة الدنيا ، وهي : أن تكون رزقا.
[١١٥] (قالَ اللهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) لأنه شاهد الآية الباهرة وكفر ، عنادا وظلما ، فاستحق العذاب الأليم ، والعقاب الشديد. واعلم أن الله تعالى وعد أنه سينزلها ، وتوعدهم ـ إن كفروا ـ بهذا الوعيد. ولم يذكر أنه أنزلها. فيحتمل أنه لم ينزلها ، بسبب أنهم لم يختاروا ذلك. ويدل على ذلك ، أنه لم يذكر في الإنجيل الذي بأيدي النصارى ، ولا له وجود. ويحتمل أنها نزلت ، كما وعد الله ، وأنه لا يخلف الميعاد. ويكون عدم ذكرها في الأناجيل التي بأيديهم ، من الحظ الذي ذكروا به فنسوه. أو أنه لم يذكر في الإنجيل أصلا ، وإنّما ذلك كان متوارثا بينهم ، ينقله الخلف عن السلف ، فاكتفى الله بذلك ، عن ذكره في الإنجيل. ويدل على هذا المعنى قوله : (وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ) والله أعلم بحقيقة الحال.
[١١٦] (وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ). وهذا توبيخ للنصارى ، الّذين قالوا : إن الله ثالث ثلاثة فيقول الله هذا الكلام لعيسى. فيتبرأ منه عيسى ويقول : (سُبْحانَكَ) عن هذا الكلام القبيح ، وعمّا لا يليق بك. (وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ) أي : ما ينبغي لي ، ولا يليق أن أقول شيئا ، ليس من أوصافي ، ولا من حقوقي. فإنه ليس أحد من المخلوقين ، لا الملائكة