موجب ذلك ، ثمّ حصل من تضليل بعضهم لبعض ، وعداوة بعضهم لبعض ، ما هو قرة عين اللعين. وإلا فإذا كان ربهم واحدا ، ورسولهم واحدا ، ودينهم واحدا ، ومصالحهم العامة متفقة ، فلأي شيء يختلفون اختلافا ، يفرق شملهم ، ويشتت أمرهم ، ويحل رابطتهم ونظامهم ، فيفوت من مصالحهم الدينية والدنيوية ما يفوت ، ويموت من دينهم بسبب ذلك ما يموت؟ فنسألك اللهم لطفا بعبادك المؤمنين ، جمع شملهم ورأب صدعهم ، ورد قاصيهم على دانيهم ، يا ذا الجلال والإكرام.
[٩٤] يقول تعالى لنبيه محمد صلىاللهعليهوسلم : (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ) هل هو صحيح أم غير صحيح؟ (فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ) أي : اسأل أهل الكتاب المنصفين ، والعلماء الراسخين ، فإنهم سيقرون لك بصدق ما أخبرت به ، وموافقته لما معهم. فإن قيل : إن كثيرا من أهل الكتاب ، من اليهود والنصارى ، بل ربما كان أكثرهم ومعظمهم ، كذبوا رسول الله ، وعاندوه ، وردوا عليه دعوته. والله تعالى أمر رسوله أن يستشهد بهم ، وجعل شهادتهم حجة لما جاء به ، وبرهانا على صدقه ، فكيف يكون ذلك؟ فالجواب عن هذا من عدة أوجه : منها : أن الشهادة إذا أضيفت إلى طائفة ، أو أهل مذهب ، أو بلد ونحوهم ، فإنها إنّما تتناول العدول الصادقين منهم. وأما من عداهم ، فلو كانوا أكثر من غيرهم ، فلا عبرة فيهم ، لأن الشهادة مبنية على العدالة والصدق ، وقد حصل ذلك بإيمان كثير من أحبارهم الربانيين ، ك «عبد الله بن سلام» وأصحابه ، وكثير ممن أسلم في وقت النبي صلىاللهعليهوسلم ، وخلفائه ، ومن بعدهم. ومنها : أن شهادة أهل الكتاب للرسول صلىاللهعليهوسلم ، مبنية على كتابهم التوراة الذي ينتسبون إليه. فإذا كان موجودا في التوراة ، ما يوافق القرآن ويصدقه ، ويشهد له بالصحة ، فلو اتفقوا من أولهم لآخرهم على إنكار ذلك ، لم يقدح بما جاء به الرسول. ومنها : أن الله تعالى أمر رسوله أن يستشهد بأهل الكتاب على صحة ما جاءه ، وظهر ذلك وأعلنه على رؤوس الأشهاد. ومن المعلوم أن كثيرا منهم ، من أحرص الناس على إبطال دعوة الرسول محمد صلىاللهعليهوسلم. فلو كان عندهم ما يرد ما ذكره الله ، لأبدوه ، وأظهروه وبينوه. فلما لم يكن شيء من ذلك ، كان عدم رد المعادي ، وإقرار المستجيب من أدل الأدلة على صحة هذا القرآن وصدقه. ومنها : أنه ليس أكثر أهل الكتاب رد دعوة الرسول ، بل أكثرهم استجاب لها ، وإنقاذ طوعا واختيارا ، فإن الرسول بعث ، وأكثر أهل الأرض المتدينين أهل الكتاب. فلم يمكث دينه مدة غير كثيرة ، حتى انقاد للإسلام أكثر أهل الشام ، ومصر ، والعراق ، وما جاورها من البلدان التي هي مقر دين أهل الكتاب ، فلم يبق إلا أهل الرياسات الّذين آثروا رياساتهم على الحقّ ، ومن تبعهم من العوام الجهلة ، ومن تدين بدينهم اسما لا معنى ، كالإفرنج الّذين حقيقة أمرهم ، أنهم دهرية منحلون عن جميع أديان الرسل. وإنّما انتسبوا للدين المسيحي ترويجا لملكهم ، وتمويها لباطلهم ، كما يعرف ذلك من عرف أحوالهم البينة الظاهرة. وقوله : (لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُ) أي : الذي لا شك فيه بوجه من الوجوه (مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ) كقوله تعالى : (كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ).
[٩٥] (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ) (٩٥) ، وحاصل هذا أن الله نهى عن