معهم من الحقّ ، فيكون هذا ، كقول نوح لقومه : (يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللهِ فَعَلَى اللهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ) الآيات ، وقول هود عليهالسلام : (إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ) (٥٥). (وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا) أي : ولنستمرن على دعوتكم ، ووعظكم ، وتذكيركم ، ولا نبالي بما يأتينا منكم ، من الأذى ، فإنا سنوطن أنفسنا على ما ينالنا منكم من الأذى ، احتسابا للأجر ، ونصحا لكم ، لعل الله أن يهديكم مع كثرة التذكير. (وَعَلَى اللهِ) وحده لا على غيره (فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) فإن التوكل عليه ، مفتاح لكل خير. واعلم أن الرسل ، عليهم الصلاة والسّلام ، توكلهم في أعلى المطالب وأشرف المراتب ، وهو التوكل على الله ، في إقامة دينه ونصره ، وهداية عبيده ، وإزالة الضلال عنهم ، وهذا أكمل ما يكون من التوكل.
[١٣] لما ذكر دعوة الرسل لقومهم ودوامهم على ذلك ، وعدم مللهم ، ذكر منتهى ما وصلت بهم الحال ، مع قومهم فقال : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ) متوعدين لهم ـ (لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا) وهذا أبلغ ما يكون من الرد ، وليس بعد هذا فيهم مطمع ، لأنه ما كفاهم أن أعرضوا عن الهدى ، بل توعدوهم بالإخراج من ديارهم ونسبوها إلى أنفسهم ، وزعموا أن الرسل ، لا حقّ لهم فيها ، وهذا من أعظم الظلم ، فإن الله أخرج عباده إلى الأرض ، وأمرهم بعبادته ، وسخر لهم الأرض وما عليها ، يستعينون بها على عبادته. فمن استعان بذلك على عبادة الله ، حل له ذلك ، وخرج من التبعة ، ومن استعان بذلك على الكفر وأنواع المعاصي ، لم يكن ذلك خالصا له ، ولم يحل له ، فعلم أن أعداء الرسل في الحقيقة ، ليس لهم شيء من الأرض ، التي توعدوا الرسل بإخراجهم منها. وإن رجعنا إلى مجرد العادة ، فإن الرسل من جملة أهل بلادهم ، وأفراد منهم ، فلأي شيء يمنعونهم حقا لهم ، صريحا واضحا؟ هل هذا إلا من عدم الدين والمروءة بالكلية؟ ولهذا لما انتهى مكرهم بالرسل إلى هذه الحال ، ما بقي حينئذ ، إلا أن يمضي الله أمره ، وينصر أولياءه ، (فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ) بأنواع العقوبات.
[١٤] (وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذلِكَ) أي : العاقبة الحسنة التي جعلها الله للرسل ومن تبعهم ، جزاء (لِمَنْ خافَ مَقامِي) عليه في الدنيا ، وراقب الله مراقبة من يعلم أنه يراه ، (وَخافَ وَعِيدِ) أي : ما توعدت به من عصاني ، فأوجب له ذلك ، الانكفاف عما يكرهه الله ، والمبادرة إلى ما يحبه الله.
[١٥] (وَاسْتَفْتَحُوا) أي : الكفار ، أي : هم الّذين طلبوا ، واستعجلوا فتح الله وفرقانه ، بين أوليائه وأعدائه ، فجاءهم ما استفتحوا به ، وإلا فالله عليم حليم ، لا يعاجل من عصاه بالعقوبة ، (وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ) أي :
خسر في الدنيا والآخرة ، من تجبر على الله وعلى الحقّ ، وعلى عباد الله ، واستكبر في الأرض ، وعاند الرسل ، وشاقّهم.
[١٦] (مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ) أي : جهنم لهذا الجبار العنيد بالمرصاد ، فلا بد له من ورودها ، فيذوق حينئذ العذاب