(ذلِكَ) الذي استحقوا به غضبه (بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ) الدالات على الحق ، الموضحة له ، فلما كفروا بها عاقبهم بغضبه عليهم ، وبما كانوا (يَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِ). وقوله : (بِغَيْرِ الْحَقِ) زيادة شناعة ، وإلا فمن المعلوم أن قتل النبيين لا يكون بحق ، لكن لئلا يظن جهلهم وعدم علمهم. (ذلِكَ بِما عَصَوْا) بأن ارتكبوا معاصي الله (وَكانُوا يَعْتَدُونَ) على عباد الله ، فإن المعاصي يجر بعضها بعضا ، فالغفلة ينشأ عنها الذنب الصغير ، ثم ينشأ عنها الذنب الكبير ، ثم ينشأ عنها أنواع البدع والكفر وغير ذلك ، فنسأل الله العافية من كل بلاء. واعلم أن الخطاب في هذه الآيات لأمة بني إسرائيل الذين كانوا موجودين وقت نزول القرآن ، وهذه الأفعال المذكورة خوطبوا بها وهي فعل أسلافهم ، ونسبت لهم لفوائد عديدة منها أنهم كانوا يتمدحون ويزكون أنفسهم ، ويزعمون فضلهم على محمد ومن آمن به ، فبيّن الله من أحوال سلفهم التي قد تقررت عندهم ، ما يبين به لكل واحد منهم أنهم ليسوا من أهل الصبر ومكارم الأخلاق ، ومعالي الأعمال ، فإذا كانت هذه حالة سلفهم ـ مع أن المظنة أنهم أولى وأرفع حالة ممن بعدهم ـ فكيف الظن بالمخاطبين؟ ومنها : أن نعمة الله على المتقدمين منهم ، نعمة واصلة إلى المتأخرين ، والنعمة على الآباء ، نعمة على الأبناء ، فخوطبوا بها ، لأنها نعم تشملهم وتعمهم. ومنها : أن الخطاب لهم بأفعال غيرهم ، مما يدل على أن الأمة المجتمعة على دين تتكافل وتتساعد على مصالحها ، حتى كان متقدمهم ومتأخرهم في وقت واحد ، وكان الحادث من بعضهم حادثا من الجميع ؛ لأن ما يعمله بعضهم من الخير ، يعود بمصلحة الجميع ، وما يعمله من الشر يعود بضرر الجميع. ومنها : أن أفعالهم أكثرهم لم ينكرها ، والراضي بالمعصية شريك للعاصي ، إلى غير ذلك من الحكم ، التي لا يعلمها إلا الله.
[٦٢] ثم قال تعالى حاكما بين الفرق الكتابية : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (٦٢) ، وهذا الحكم على أهل الكتاب خاصة ، لأن الصابئين ، الصحيح ، أنهم من جملة فرق النصارى ، فأخبر الله أن المؤمنين من هذه الأمة ، واليهود والنصارى ، والصابئين ، من آمن بالله واليوم الآخر ، وصدّقوا رسلهم ، فإن لهم الأجر العظيم ، والأمن ، ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون. وأما من كفر منهم بالله ورسله واليوم الآخر ، فهو بضد هذه الحال ، فعليه الخوف والحزن. والصحيح أن هذا الحكم بين هذه الطوائف ، من حيث هم ، لا بالنسبة إلى الإيمان بمحمد ، فإن هذا إخبار عنهم قبل بعثة محمد صلىاللهعليهوسلم ، وأن هذا مضمون أحوالهم. وهذه طريقة القرآن إذا وقع في بعض النفوس عند سياق الآيات بعض الأوهام ، فلا بد أن تجد ما يزيل ذلك الوهم ، لأنه تنزيل ممن يعلم الأشياء قبل وجودها ، ومن رحمته وسعت كل شيء. وذلك ـ والله أعلم ـ أنه لما ذكر بني إسرائيل وذمهم ، وذكر معاصيهم وقبائحهم ، ربما وقع في بعض النفوس أنهم كلهم يشملهم الذم ، فأراد الباري تعالى أن يبين من لا يلحقه الذم منهم بوصفه. ولما كان أيضا ، ذكر بني إسرائيل خاصة ، يوهم الاختصاص بهم ، ذكر تعالى حكما عاما يشمل الطوائف كلها ، ليتضح الحق ، ويزول التوهم