الإيمان الذي يؤيد الله به عباده. ثم مع هذه النعم التي لا يقدر قدرها ، لما أتوكم (بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ) عن الإيمان بهم ، (فَفَرِيقاً) منهم (كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ) ، فقدمتم الهوى على الهدى ، وآثرتم الدنيا على الآخرة ، وفيها من التوبيخ والتشديد ، ما لا يخفى.
[٨٨ ـ ٩٠] (وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ) ، أي : اعتذروا عن الإيمان لما دعوتهم إليه ، يا أيها الرسول ، بأن قلوبهم غلف ، أي : عليها غلاف وأغطية ، فلا تفقه ما تقول ، يعني ، فيكون لهم ـ بزعمهم ـ عذر لعدم العلم ، وهذا كذب منهم ، فلهذا قال تعالى : (بَلْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ) ، أي : أنهم مطرودون ملعونون ، بسبب كفرهم ، فقليلا المؤمن منهم ، أو قليلا إيمانهم ، وكفرهم هو الكثير. أي : ولما جاءهم من عند الله على يد أفضل الخلق ، وخاتم الأنبياء ، الكتاب المشتمل على تصديق ما معهم من التوراة ، وقد علموا به ، وتيقنوه على أنهم إذا كان وقع بينهم وبين المشركين في الجاهلية حروب ، استنصروا بهذا النبي ، وتوعدوهم بخروجه ، وأنهم يقاتلون المشركين معه. فلما جاءهم هذا الكتاب والنبي الذي عرفوا ، كفروا به ، بغيا وحسدا ، أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده ، فلعنهم الله ، وغضب عليهم غضبا بعد غضب ، لكثرة كفرهم ، وتوالي شكهم وشركهم. (وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ) ، أي : مؤلم موجع ، وهو صلي الجحيم ، وفوت النعيم المقيم ، فبئس الحال حالهم ، وبئس ما استعاضوا واستبدلوا من الإيمان بالله وكتبه ورسله ، الكفر به ، وبكتبه وبرسله ، مع علمهم وتيقنهم ، فيكون أعظم لعذابهم.
[٩١] (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ) ، أي : وإذا أمر اليهود بالإيمان بما أنزل الله على رسوله ، وهو القرآن ، استكبروا وعتوا ، و (قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ) ، أي : بما سواه من الكتب ، مع أن الواجب أن يؤمنوا بما أنزل الله مطلقا ، سواء أنزل عليهم ، أو على غيرهم ، وهذا هو الإيمان النافع ، الإيمان بما أنزل الله على جميع رسله. وأما التفريق بين الرسل والكتب ، وزعم الإيمان ببعضها دون بعض ، فهذا ليس بإيمان ، بل هو الكفر بعينه ، ولهذا قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا). ولهذا رد عليهم تبارك وتعالى هنا ردا شافيا ، وألزمهم إلزاما لا محيد لهم عنه ، فرد عليهم بكفرهم بالقرآن بأمرين ، فقال : (وَهُوَ الْحَقُ) ، فإذا كان هو الحق في جميع ما اشتمل عليه من الإخبارات ، والأوامر والنواهي ، وهو من عند ربهم ، فالكفر به ـ بعد ذلك ـ كفر بالله ، وكفر بالحق الذي أنزله. ثم قال : (مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ) ، أي : موافقا له في كل ما دل عليه من الحق ومهيمنا عليه. فلم تؤمنون بما أنزل عليكم ، وتكفرون بنظيره؟ هل هذا إلا تعصب ، واتباع للهوى لا للهدى؟ وأيضا ، فإن كون القرآن مصدقا لما معهم ، يقتضي أنه حجة لهم على صدق ما في أيديهم من الكتب ، فلا سبيل لهم إلى إثباتها إلا به ، فإذا كفروا به وجحدوه ، صاروا بمنزلة من ادعى دعوى بحجة وبينة ، ليس له غيرها ، ولا تتم دعواه إلا بسلامة بينته ، ثم يأتي هو لبينته وحجته ، فيقدح فيها ويكذب بها ، أليس هذا من الحماقة والجنون؟ فكان كفرهم بالقرآن ،