كفرا بما في أيديهم ونقضا له. ثم نقض عليهم تعالى دعواهم الإيمان بما أنزل إليهم بقوله : (قُلْ) لهم (فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)
[٩٢] (وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ) ، أي : بالأدلة الواضحات المبينة للحق. (ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ) ، أي : بعد مجيئه (وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ) في ذلك ليس لكم عذر.
[٩٣] (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا) ، أي : سماع قبول وطاعة واستجابة ، (قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا) ، أي : صارت هذه حالتهم (وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ) ، أي : صبغ حب العجل ، وحب عبادته ، في قلوبهم ، وشربها بسبب كفرهم. (قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) ، أي : أنتم تدعون الإيمان وتتمدحون بالدين الحق ، وأنتم قتلتم أنبياء الله ، واتخذتم العجل إلها من دون الله ، لما غاب عنكم موسى ، نبي الله ، ولم تقبلوا أوامره ونواهيه إلا بعد التهديد ورفع الطور فوقكم ، فالتزمتم بالقول ، ونقضتم بالفعل. فما هذا الإيمان الذي ادعيتم ، وما هذا الدين؟ فإذا كان هذا إيمانا على زعمكم ، فبئس الإيمان الداعي صاحبه إلى الطغيان ، والكفر برسل الله ، وكثرة العصيان ، وقد عهد أن الإيمان الصحيح يأمر صاحبه بكل خير ، وينهاه عن كل شر ، فوضح بهذا كذبهم ، وتبين تناقضهم.
[٩٤] أي : (قُلْ) لهم على وجه تصحيح دعواهم (إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ) ، يعني الجنة (خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ) كما زعمتم أنه لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى ، وأن النار لن تمسكم إلا أياما معدودة ، فإن كنتم صادقين في هذه الدعوى (فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ) وهذا نوع مباهلة بينهم وبين رسول الله صلىاللهعليهوسلم. وليس بعد هذا الإلجاء والمضايقة لهم بعد العناد منهم ، إلا أحد أمرين : إما أن يؤمنوا بالله ورسوله ، وإما أن يباهلوا على ما هم عليه بأمر يسير عليهم ، وهو تمني الموت الذي يوصلهم إلى الدار التي هي خالصة لهم ، فامتنعوا من ذلك.
[٩٥] فعلم كل أحد أنهم في غاية المعاندة والمحادة لله ولرسوله ، مع علمهم بذلك ، ولهذا قال تعالى : (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ). من الكفر والمعاصي ، لأنهم يعلمون أنه طريق لهم إلى المجازاة بأعمالهم الخبيثة.
[٩٦] فالموت أكره شيء إليهم ، وهم أحرص على الحياة من كل أحد من الناس ، حتى من المشركين الذين لا يؤمنون بأحد من الرسل والكتب. ثم ذكر شدة محبتهم للدنيا ، فقال : (يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ) ، وهذا أبلغ ما يكون من الحرص ، تمنوا حالة هي من المحالات ، والحال أنهم لو عمروا العمر المذكور ، لم يغن عنهم شيئا ، ولا دفع عنهم من العذاب شيئا. (وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ). تهديد لهم على المجازاة بأعمالهم.
[٩٧ ـ ٩٨] (قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا) ، أي : قل لهؤلاء اليهود ، الذين زعموا أن الذي منعهم من الإيمان بك ، أن وليك جبريل عليهالسلام ، ولو كان غيره من ملائكة الله ، لآمنوا بك وصدقوا : إن هذا الزعم منكم ، تناقض وتهافت ، وتكبر على الله ، فإن جبريل عليهالسلام هو الذي نزّل القرآن من عند الله على قلبك ، وهو الذي ينزل على الأنبياء قبلك ، والله هو الذي أمره ، وأرسله بذلك ، فهو رسول محض. مع أن هذا الكتاب الذي نزل به جبريل ـ