القاهر لكل شيء ، الذي لا يمتنع على قوته شيء ، (الْحَكِيمُ) الذي يضع الأشياء مواضعها ، فبعزتك وحكمتك ، ابعث فيهم هذا الرسول. فاستجاب الله لهما ، فبعث الله هذا الرسول الكريم ، الذي رحم الله به ذريتهما خاصة ، وسائر الخلق عامة ، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام : «أنا دعوة أبي إبراهيم».
ولما عظم الله إبراهيم هذا التعظيم ، وأخبر عن صفاته الكاملة ، قال تعالى : (إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (١٣١) وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٣٢) أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) (١٣٣).
[١٣٠] (وَمَنْ يَرْغَبُ) أي : ما يرغب (عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ) بعد ما عرف من فضله (إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ) ، أي : جهلها وامتهنها ، ورضي لها بالدون ، وباعها بصفقة المغبون كما أنه لا أرشد ولا أكمل ، ممن رغب في ملة إبراهيم. ثم أخبر عن حالته في الدنيا والآخرة ، فقال : (وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا) ، أي : اخترناه ووفقناه للأعمال ، التي صار بها من المصطفين الأخيار. (وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) ، الذين لهم أعلى الدرجات.
[١٣١] (إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ) امتثالا لربه (أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) ، إخلاصا وتوحيدا ، ومحبة ، وإنابة ، فكان التوحيد لله نعته. ثم ورثه في ذريته ، ووصاهم به ، وجعلها كلمة باقية في عقبه ، وتوارثت فيهم ، حتى وصلت ليعقوب فوصى بها بنيه.
[١٣٢] فأنتم ـ يا بني يعقوب ـ قد وصاكم أبوكم بالخصوص ، فيجب عليكم كمال الانقياد ، واتباع خاتم الأنبياء ، قال : (يا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ) ، أي : اختاره وتخيره لكم ، رحمة بكم ، وإحسانا إليكم ، فقوموا به ، واتصفوا بشرائعه ، وانصبغوا بأخلاقه ، حتى تستمروا على ذلك فلا يأتيكم الموت إلا وأنتم عليه ، لأن من عاش على شيء ، مات عليه ، ومن مات على شيء ، بعث عليه.
[١٣٣] ولما كان اليهود يزعمون أنهم على ملة إبراهيم ، ومن بعده يعقوب ، قال تعالى منكرا عليهم : (أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ) ، أي : حضورا (إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ) ، أي : مقدماته وأسبابه ، فقال لبنيه على وجه الاختبار ، ولتقرّ عينه في حياته بامتثالهم ما وصاهم به : (ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي)؟ فأجابوه بما قرّت به عينه ، فقالوا : (نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً) ، فلا نشرك به شيئا ، ولا نعدل به ، (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) فجمعوا بين التوحيد والعمل. ومن المعلوم أنهم لم يحضروا يعقوب ، لأنهم لم يوجدوا بعد ، فإذا لم يحضروا ، فقد أخبر الله عنه أنه وصى بنيه بالحنيفية ، لا باليهودية.
[١٣٤] ثم قال تعالى : (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ) ، أي : مضت (لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ) ، أي : كل له عمله ، وكل سيجازى بما فعله ، لا يؤاخذ أحد بذنب أحد ، ولا ينفع أحد إلا إيمانه وتقواه.
[١٣٥] فاشتغالكم به وادعاؤكم أنكم على ملتهم ، والرضا بمجرد القول ، أمر فارغ لا حقيقة له ، بل الواجب عليكم ، أن تنظروا حالتكم التي أنتم عليها ، هل تصلح للنجاة أم لا؟ (وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (١٣٥) أي : دعا كل من اليهود والنصارى والمسلمين إلى الدخول في دينهم ، زاعمين أنهم هم المهتدون وغيرهم ضال. قال له مجيبا جوابا شافيا (بَلْ) نتبع (مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) ، أي : مقبلا على الله ، معرضا عما سواه ، قائما بالتوحيد ، تاركا للشرك والتنديد. فهذا الذي في اتباعه الهداية ، وفي الإعراض عن ملته الكفر والغواية.
[١٣٦] (قُولُوا آمَنَّا) ، هذه الآية الكريمة ، قد اشتملت على جميع ما يجب الإيمان به. واعلم أن الإيمان الذي هو تصديق القلب التام بهذه الأصول ، وإقراره المتضمن لأعمال القلوب والجوارح ، وهو ـ بهذا الاعتبار ـ يدخل فيه